مُنفسَح الظنون

29 مايو 2018
إنعام أحمد/ عُمان
+ الخط -

بالنسبة إلى البعض، ربما كنتُ في قلب مشهد الكتابة بين نُظرائي الكُتاب العُمانيين، لكنني طالما اعتبرتُ نفسي على الهامش الإبداعي قريباً من حافة اللامعنى؛ بالمعنى الأنطولوجي العميق. لأنني باختصار سليل أخطاء ابستمولوجية في سيرورة التكوين المعرفي، فضلًا عن ملاحقتي باستهدافٍ مُمنهج من المؤسسة الثقافية لتحييد ظِلّي من المشهد. لكنني لم أعبأ بالأمر، ولم أكترث بحقل ألغام فرقعَ رمزيّاً أصابعَ مُستزرعيه؛ لأنطلق منجذبًا لنجمة مجهولٍ قادتني بسخاء ضوئها الخافت نحو دهشة المغامرة الإبداعية، حد الحماقة النموذجية في أسلوب كتابة وحياة أسفرا عن لا مُبالاة بذهَب النتائج، فِضَّتها المِرنان أو نُحاسها المنحوس في نهضة القواميس.

لن أطيل، كما أطالَ الأوّلون...
الاختصار إلهُ الكلمات، وسأحاول قدر المُستطاع بُلوغ آيته المُثلى.

***

كانت القصائد العمودية، مُرتقى بداياتٍ مطلع ثمانينيات القرن المُنصرم، لم ألبث أن هجرتها سِراعًا لأترنَّح في ورشة بدر شاكر السَّياب وشُركاه؛ ناسجاً على مِنوالهم قصائد تفعيلة وجدت نفسي -بفعل السيِّد الزمن- أهجرها طوعاً؛ لأكتب قصائد نثر أفخِّخها بمقاطع موزونة في بعض الأحايين، لسبب معقد وبسيط: قصيدة النثر لم تُقنعني وحدها، حتى في أكثر نماذجها صَفاءً وعذوبة. والرِّهانُ كامِنٌ في وهج الشِّعر الذي سيجدُ مُنفسَحه المُستقبلي خارج التأطير الخلّاق لعبد القاهر الجرجاني وسوزان برنار، إن اختصرنا قوس القدَامَة والحداثة في نقدهما المؤسِّس.

هذا التشظي المَرِح، في مختبر الشعريَّة، اقتادني لمُتحف السَّرد الخلاق في كثير من قصائد المجموعات المُتأخرة، لدرجة ظهور الحكاية مسرودة في قالب يدَّعي شَعرَنتها بنجاحٍ نسبيٍّ، كما بفشلٍ مُواز لا بد من الانحناء لقبَّعة فضائله السَّوداء.
فالشاعرُ يمضي في الدَّربِ المُترَب..
يمضي للحَتفِ كقِردٍ نحَويٍّ
نحو يقين الظنّ.
كما غامرَ مُنفسَحُ الظنون مرَّةً، بالأحرى كما غامَرَ يقينُها المُترَبُ في إحدى القصائد!

مُتحفُ السَّرد الباذخ هذا جعلني أتحاشى، عن قصد، كتابة القصة والرِّواية لإيماني بالفشل الذريع، لكنه وضعَ أمامي منجماً مُوازياً حفرتُ فيه بمزاج رحليٍّ لأفاجئ نفسي، في آخر النفق، بكتاب: "عين وجناح". وهو كتابٌ أدين له بحضور سَرَّبني لشرائح قرائية ما كان الشعرُ وحده ليتيح لي بلوغها، بحُكم نخبويَّته أولًا، وانصراف أهواء عموم القراء تاليًا عنه. تلك حقيقة لا بد من الاعتراف بها، في زمن لا مُتنبِّي، لا شِكسبير، لا بودلير، ولا أبا تمَّام يستكملون مهمَّتهم الرَّسولية فيه.

مُستضيئًا بقنديل الشعر في مفازة الترحل؛ اقتادني الشغفُ نحو دروب أوصلتني -دون أن أدري- لنمْذجَةٍ وتأطير أتمنى لو كنتُ جديرًا بهما: صورة الكاتب المُنفلت منعكسةً في مرآة المثقف اللا-عُضوي، فيما لو تجاسرتُ على العزيز أنطونيو غرامشي، فتلك بداهة مفصلية لن تغفل عنها عينا قارئ الشعر الذواقة ومُستقرئ فراديس الترحُّل، في آن.

***

دخلتُ متحف السَّرد من نوافذه الخلفية، إذاً..
ورفيقي القِردُ النحويُّ يشاكسني، ابتداءً من أدب الرِّحلة الذي حاولتُ الإعلاء من شأنه وفق ما ارتأيته مُقترَحاً إحيائيّاً في كتاب عين وجناح، حاولت استكماله في "محيط كتمندو"، كتابي الرَّحلي القادم في أوقيانوس الهيمالايا...
أوقيانوس شيخي ابن بطوطة وآخرين!

لا بأس؛ حماقاتُ السَّرد حتمًا ستتوالى، ولذلك استمرأتُ كتابة مقالات في الصحافة طوال ربع قرن، جمعتُ ما اعتقدتُ أو حسبته الأكثر ديمومة والأكثر تعبيرًا عن كينونتي ومزاجي في كتاب: "ورشة الماضي"، كما هو معروف. بيد أن غواية السَّرد جعلتني أستمرئ حماقاتي بالحماقة الكُبرى: محاولة كتابة الرِّواية-الضِّد. لأن "تنقيح المخطوطة"، في عُمقيها الهشّ والصَّلب؛ فنتازيا ورشة روائية نخبوية أكثر منها "رواية" يُعتد بكمالاتها كما بنُقصاناتها، في الموزاين النقدية، ضمن هيمنة أنساق شائعة تُعورِف عليها.

ولذلك، لذلك لن أتوانى عن محاولة اصطياد لؤلؤة التنقيح في كُتب قادمة...

أين تأخذني الكتابة إذًا؟... لا أعرف، بيد أنكم تعرفون حقيقة مُرَّة، حقيقة أقضَّت مضجع الشاعر راينر ماريا ريلكه ذات ألَم، فالكتّاب والشعراء حين ينتهون في المتاهة إلى لا شيء
يموتون
ثم يضحكون في أغلفة الكتب
يموتون
ويبكون طويلاً في الكلمات.


* ما يشبه شهادة للراحل ضمن ندوة حول تجربته الأدبية، نظّمها "النادي الثقافي" في مسقط 2015.

المساهمون