محمد شكري.. الشحرور المغرّد خارج السرب

15 نوفمبر 2018
شكري في طنجة (تصوير: رشيد الوطّاسي)
+ الخط -

اختار "الشحرور الأبيض" أن يغرّد خارج السرب بعدما ألقى معطفه الأسود، وتلك إحدى غواياته. كان يمتعض من الاصطفاف في طابور الرواة الذين تحلّقوا حول الكاتب الأميركي بول بولز، بل أعلن تمرُّدَهُ عليه.

كان يعرف أن بولز هو المستفيد الأكبر من الأعمال التي ينشرها لكلّ من محمد المرابط، والعربي العياشي، وأحمد اليعقوبي، وعبد السلام بولعيش الذين شكّلوا جماعة رواة شفويّين عُرفت بـ "حلقة رواة طنجة".

تحلّقت الجماعة حول الكاتب الأميركي القادم لاستكشاف هذا العالم، فاتحةً له عن معين عرف كيف يستثمره. يقول محمّد شكري (1939 - 2003) في كتابه "بول بولز وعزلة طنجة" واصفاً تجربته منذ بداية تعامله مع بولز: "مساء اليوم التالي، حملت معي قصّتَين: "العنف في الشاطئ" و"بقول الأموات".

استعملنا الإسبانية نقلاً إلى الإنكليزية. أُعجب بولز بالقصّتين. لم نكن قد أنهينا بعد ترجمة قصة "بشير حياًّ وميتاً" عندما وصل الناشر الإنكليزي بيتر أوين إلى طنجة.

لم يقل لي بولز عنه شيئاً كثيراً. وبعدما نشر أوين كتابي ولم يدفع لي حقوقي عن النشر، ما عدا مئة جنيه كتسبيق، أدركت أنه (عولق vampire) هو نفسه يعترف بأنه غانغستر. لكن دفاعاً عن نفسه، يدّعي أنه يساعد المغمورين على البروز والشهرة... مبتدئاً كنت، وما كان يهمّني، حتى وإن كان هناك احتيال وابتزاز، هو أن أنشر كتابي الأوّل".

كان حلم شكري أن يصير كاتباً عالمياً، أن يكون ندّاً للكبار. ولذلك لم يستسلم منذ البداية لإكراهات تبعية مقيتة كانت ستسلبه حريته واستقلاليته ككاتب ذي شخصيّة قويّة ومتميّزة، على مستوى التجربة المعيشة، وعلى مستوى تكوينه، وقراءاته الغزيرة التي كان يُسابق فيها الريح لاستدراك ما فاته من الزمن.

إضافةً إلى وعيه العميق بفكرة الانتماء إلى ثقافة وطنية تتأطّر ضمن وعيٍ بالقضايا القومية الكبرى. ومع ذلك، فقد كان طموحُه أن يضاهي صورةً ترسخت في ذهنه، لأحد أعمدة الحداثة الشعرية في المغرب، الذين صنعوا مجد مجلّة "المعتمد"، الكاتب الشاعر والمترجم محمد الصبّاغ، الرجل الذي شكلته تجربته جسراً للتواصل الثقافي بين المغرب وإسبانيا.

في تقديمه لكتاب شكري "غواية الشحرور الأبيض"، يقول محيي الدين اللاذقاني: "يتذكّر، بعد كل تلك السنين، كيف اقتنص لنفسه آنذاك لقب "الكاتب المغربي"، وتصوَّرَ مع أوّل مقالٍ له على طريقة أحمد شوقي واضعاً يده على خدِّه، مُسبلاً عينيه على حلم التحوّل إلى كاتب محلّي معروف ينهض له الناس احتراماً، كما كانوا يفعلون مع كاتب مغربي اسمه محمد الصباغ في أحد مقاهي تطوان. وقد حقّق شكري ما هو أبعد من ذلك الحلم، وصار معروفاً في كافة أرجاء الوطن العربي، ومترجَماً إلى معظم لغات العالم الحية".

يبدو أن غاية شكري برّرت الوسيلة. لذلك، جلس بين يدَي بولز ليحرّر مَحكيّه من أَسر الحدود الضيّقة، كان يرغب في أن يجد لكتابته أفقاً أرحب، لكن من دون أن يتحوّل إلى طائر إيكاروس.

كان يعي أنه إذا ما استرخى في ظلال الكاتب الأميركي، سيتحوّل حتماً إلى شبحٍ يقتاتُ على فتاتِ المائدة. كان شكري حريصاً على ألّا يقترن اسمه بباقي أسماء حلقة الرواة، فصفّى حساباته بشكل نهائي مع بول بولز سنواتٍ بعد صدور الصيغة الإنكليزية لسيرته الذاتية في الولايات المتّحدة تحت عنوان: "من أجل الخبز وحده"، واضعاً على المشرحة حياة وشخصية وأدب بولز في كتابه "بول بولز وعزلة طنجة".

أتت الترجمة الفرنسية بتحريض من محمد برادة على يد الطاهر بن جلون، ونُشرت في دار "ماسبيرو"، وتبعها حوارٌ في البرنامج التلفزيوني الفرنسي الشهير "فاصلة"، ثم توالت بعد ذلك ترجماتٌ إلى لغاتٍ أخرى من بينها الإسبانية، وتكفّل بإنجازها عبد الله أجبيلو باقتراح من خوان غويتيسولو الذي وضع أيضاً تقديماً، لتُنشَر في "دار مونتيسينوس".

تقول المترجمة المغربية، مليكة أمبارك لوبيث: "أذكر، إذن، أحاديثنا في تلك الشرفة لتورينتبو في تلك الإقامة القصيرة، وأظن أن خوان عرض هنالك عليه [أي على عبد الله أجبيلو] ذلك المقترح غير القابل للرفض بترجمة "الخبز الحافي"، والذي أتخيّل أنه وسَم إلى الأبد مسار عبد الله كمترجم، أيُّ بداية جدّ محظوظة!".

ورغم انتقاد عمل أجبيلو، لم يستطع أحد إثبات أخطاء أو عيوب في ترجمته، سواء من حيث دقّته في اختيار الكلمات أو التراكيب، عدا تركيزهم على العنوان، وإشادتهم بترجمة جديدة لم يقرؤوها ليقارنوا بينها وبين ترجمة أجبيلو.

استعمل الأخير عنواناً يستحضر بشكلٍ ما، كلمة "حافي" كصفة للخبز في الدارجة المغربية، وهي استعارة تحتمل أكثر من وجه إذا تمّ أخذها في سياقها المحلّي، وقد اختارت المترجمة الجديدة القفز على الاستعارة والركون إلى إبقاء المعنى الجامع والمباشر كما في الإنكليزية، فاستعارت العبارة التي طالما ردّدها غويتيسولو، وبذلك فهذا العنوان لم يكن فتحاً في الترجمة، إذ جرى تداوُله حرفياً في أكثر من حلقة نقاش ومن مسامرة أدبية مع صاحبه خوان غويتسولو عرَّاب "الخبز الحافي".

وليس هذا انتقاصاً من عمل الترجمة الإسبانية الثانية، الذي لا ينبغي أن يكون الشجرة التي تحجب الغابة، فقد بيعت آلاف النسخ من ترجمة أجبيلو. وإلى الآن، في إسبانيا، تتمّ الإشارة إلى الكاتب الطنجي بالعنوان الذي اختاره أجبيلو.

في دردشة مع محمد شكري، خلال أحد لقاءاتنا العديدة، شرح لي أن ترجمة أجبيلو استنفدت إمكاناتها في تسويق الكتاب، وأن وكيله روبيرتو دي هولاندا اقترح عليه أن تُعادَ ترجمة العمل إلى اللغة الإسبانية ويتم تغيير دار النشر لكي يكتسب حياةً جديدة.

كان شكري يخطّط لتجديد انطلاقة "الخبز الحافي" من الناحية التجارية، مع متابعة نقدية وأدبية في الصحافة والملاحق الثقافية، بغض النظر عن إحداث تغييرات أو عدم إحداثها في الترجمة المتداولة.

المساهمون