ابتهالات للعذراء السمراء

21 أكتوبر 2016
(الكاتب الكولومبي)
+ الخط -

كانت قطعة أرض أبي صغيرة جدّاً لكنها كانت منبسطة بشكل غريب. أنا، أنا كنت متوحّشاً، كنت شخصاً من دون حدود ولا لجام: كنت شخصاً غير مروَّض. لكن، في الحقيقة، كان انبساط قطعة أرض أبي غريباً جداً. لم نعد نلعب كرة القدم هناك، فقد كانت صغيرة جداً، ولأننا عشقنا الهواء ولأن ذاك الشيء كان يبرز هناك.

حين أقول إننا وقعنا في غرام الهواء، يعني أننا تعلمنا أن نتحرّك فوق الأسقف وكنّا نجري فوق الأسوار مكتشفين أسرار كل بيت وخصوصيات أهله. كنّا نعرف التقاليد والملابس الداخلية لكل واحد، وكنّا تقريباً صامتين كأننا فئران.

لكن هذا الأمر في قطعة أرض أبي كان شيئاً مختلفاً تماماً. ذلك الشيء الذي كان يبرز تقريباً في وسط قطعة أرض أبي كان يظهر لي من الداخل، من عمودي الفقري إلى السلّم الذي رآه يعقوب. كانت شجرة برقوق دمي. صوتي ما زال ملطّخاً بعصيرها. قبل المسيح كان الصليب بانتظاره. لحم ذلك البرقوق كان جرحي.

القروش التي كسبتها من شجرة البرقوق هذه. حذّروني من ذلك. ولكن كما لو كنتُ أمرّ بوقت حرج، كأنه قصة حب قاسية. "إذا صعدتَ إلى تلك الشجرة مرةً أخرى سأضربك بالعصا إلى أن يصبح لونك الأسمر بنفسجياً". أمي كانت تفتح النافذة باليد نفسها التي تعبت من ضربي لكي تراني وكانت تصرخ: "من الأحسن لك أن لا تهبط أيها الأسود، أفضل أن تظلّ هناك في الأعلى"، لأن شجرة البرقوق تلك كانت تمثّل بالنسبة إلى أبي البيت والتعب الذي دفعه للحصول عليها. لهذا كان ممنوعاً لمس شجرة البرقوق. أكثر من الأرض والبيت نفسه، شجرة البرقوق كانت بالنسبة إلى أبي ملكه.

لكنّ شجرة البرقوق كانت بالنسبة إلي طريقاً عمودياً إلى ملكٍ إلهي. كنت أعرف أن ما كنت أبحث عنه لم يكن يسكن غبار قطعة الأرض المنبسطة. كانت طيور القمري تتبع بعضها من غصن لغصن. كان كل شيء يدفعني للصعود. دون أن أدري، كنت أصعد لأكون أقرب منكِ سيدتي. حين كنت أرى صوب السماء وأرى تلك الزرقة وطبقات السحاب تلك، كنت أعرف أن هذا الدرج سيأخذني إليكِ. حين اقتربت من الشجرة، القشرة نفسها بدت كأنّ لها أظافر ومخالب. في حرارة صدري، هذا الأمر لم يكن ليكون شيئاً غير دعوةٍ للّمس والالتصاق بها. صعود ذلك الجذع كان بمثابة لمسٍ لقشرتي اللينة. الصعود لأكون أقرب أكثر من النبع الذي يملأ إناء شراب السماء.

في البدء، كنت أصعد لقتال الشياطين، قميصي مملوءٌ بالحجارة. وكانت الشياطين تبدأ بالعواء في الأسفل، وبالكاد كان بإمكانها رؤيتي. كانت تعلم أنني كنت معها. أنا كنت أبحث عن الشياطين في كل مكان سيدتي. كان ذراعي يرسل صواعق على شكل حجارة. كنت ملاكاً جاء يبحث وينقذ ما ضاع وبيده سيف ساطع.

ومع ذلك، لم أكن أركن للحرب دائماً. كانت شجرة البرقوق في السماء تحتفي بك أيضاً. كنت أضع البرقوق في إناءٍ وأغلقه وأخبّئه في قمم الشجرة يومين أو ثلاثة أيام. حين يصبح العصير جاهزاً، كنت أصعد بذلك الإناء إلى الأغصان العالية وأقيم قدّاسكِ. تلك الغصون العالية كانت ترقص تحت ثقلي وأنا أبتهل إليك. كنت أتحرّك يساراً ويميناً في السماء وأنا أخطّ اسمك.

ساعات من الهذيان والإسهال كانت جزءاً من الشعائر فقط. كل ما كان يظهر ويحسّ بين الأنين في تلك اللحظات. شخص فارغ من كل شيء، مفرغ باسمك.

ذات مرة في ضعف المعجزات ذاك، عدت لأصعد، لأستطيع وضع رأسي وكتفي داخل التيار الأزرق للسماء. هناك، فوق كل شيء، أخذ الهذيان شكل طيران فوق كل الجوار، وفي تلك اللحظة هناك تحديداً رأيتكِ.

في قطعة أرض مجاورة، رأيتكِ مستلقية على الأرض عارية تماماً. هناك كنتِ أيتها العذراء السمراء ترقدين تحت أشعة الشمس بكل تألقكِ وعظمتكِ. خيالي كان قد صوّركِ لكن ظهوركِ كان شيئاً مختلفاً تماماً. ذراعاكِ الواهنان وعيناكِ الماكرتان والغامضتان وصدركِ الذي يحمل رحمة العالم. برؤية رجليكِ بقوّتهما وشكلهما فقط كنت لأظل متضرّعاً العمر كله. لكن رؤيتكِ كاملة أسفل مني مضاءة بضوء الشمس كان شيئاً خارقاً.

سيدتنا. فكّرتُ مع نفسي: أنا لا أستحق هذه الرؤية. كوني رحيمة. وساعتها أحسستُ أن جولة الطيران انتهت. ضربة تلك الرؤية أسقطتني عن الغصن حيث كنت أجلس والهواء الأزرق بدأ يسقط ويمرّ فوق وجهي. كنت أطير صوبكِ سيدتي. ابتعدت بجناحيّ المفتوحين عن الشجرة، وكنت على وشك أن أضع رأسي في قرص الشمس، لكن شيئاً أمسكني من الكعب. كانت العذراء السمراء، كان غصن من الشجرة يمنعني من المواصلة. وبقيت هناك معلّقاً من كعبي.

حين نزلت أخيراً وبينما أسترجع أنفاسي من جديد، ازدادت قناعتي أنني أحمل في صدري عظمة. الإحساس بامتلاك ثروة لا تحصى من الداخل كان أمراً لا يطاق، كنت كأنني مصباح. أحياناً كنت أركض مسافات ورأسي بين يديّ.

ما تلى ذلك كان غرائزياً بالمرّة، ردّة فعل القبيلة، دون شروح ولا معنى. دخلت إلى مطبخ أمّي وملأت قميصي بحفن من الأرز وصعدت من جديد إلى الشجرة لنثره على الأرض. كان الوقت قد حان لتوزيع الثروات. هناك تحديداً بدأ المطر ينهمر ويتساقط الثلج وتتساقط طيور القمري. مئات من طيور القمري نزلت للمطالبة بحبات الغذاء، حبات رحمتكِ.

نزل الكثير من طيور القمري لدرجة كان عليّ أن أتوقف عن التوزيع. حين كنت بالكاد أحاول الصعود إلى شجرة البرقوق وفي يديّ حبّات الأرز، كانت تأتي صوبي، في الأول كانت تتبعني فقط، وبعد ذلك كانت تلتصق بيديّ وكتفيّ وذراعيّ ورجليّ إلى أن أصبحتُ أبدو كشخص مكوّن من أعداد كبيرة من الأجنحة الصغيرة التي تنتفض وتحرّك جناحيها في كل أنحاء جسدي.

خلال هذا التوزيع. ماذا كنت أرى؟ ماذا أحسست حين أطلقت الأرز في الهواء؟

أحسستُ في اللحظة التي كانت تسقط فيها حبات الأرز من يدي أن كل حبة كانت تتحوّل بأعجوبة إلى قطعة نقدية من الذهب. على قدر ما كانت تسقط فيه ككلمات ذهبية تلك النقود كانت تتلألأ على ضوء الشمس. وحين كانت ترتطم بالأرض والإسمنت والعشب وخشب الأسوار، كانت تحدث صوتاً مرحاً، صوتاً خفيفاً بدا لي مشابهاً للضحك. لكن لم تكن ضحكة استهزاء وإنما مثل ضحكة أمّي حين تكون سعيدة. حينها أغلقت عينيّ لأستمع إليها، وحين فتحتهما أردت أن أعثر عليها، كنت أبحث عن أمّي في كل أرجاء البيت وكنت أصرخ: "الأرز لا يهمّ. انظري تحت الشجرة! انظري يا أمي كلّ نقود العالم!".

كان صعباً بعد هذه اللحظة. كان صعباً الإحساس بشيء بعد هذه اللحظة.


* ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن تكون جورج ماريو
حين ينشر كتباً بالإسبانية فإن اسمه Mario Ángel Quintero وحين ينشر بالإنكليزية يصبح George Angel. يكتب بالإنكليزية والإسبانية، ويبدو أقرب إلى كولومبيا بلد والديه من أميركا بلد ولادته (كاليفورنيا، 1964) ونشأته. ازدواجيته اللغوية ليست أقل من تعدد حقوله، فهو شاعر وقاص وكاتب مسرحي وموسيقي وناقد.

نشر بالإنجليزية كتابين هما "كُرة" (1993) و"الفصل الخامس" (1996) وصدرت له باللغة الإسبانية ثلاثة دواوين هي "خريطة الواضح" (1996) و"عيّنة" (1998) و"تلاشي الروح في الطريق إلى السماء" (2009).

ورغم اشتغاله على عدة فنون وأجناس أدبية، فإن تجربته في الفن الرابع تبقى الأبرز في مسيرته فقد صدرت له عدت مسرحيات من بينها "النوايا الحسنة" (2004) و"الموت في أرض الغير" (2009) وهو مدير لفرقة "بارْبَدو للمسرح" في مدينة ميديلين ثاني أكبر مدن كولومبيا. وهو أيضاً عضو في الفرقتين الموسيقيتين "أنديرفلافور" و"سيل دي إليفانت".

المساهمون