بيثنتي ألكسندري.. رسالة إلى تطوان

23 مارس 2016
(بيثنتي ألكسندري في مدريد عام 1977، تصوير: غياني فيراري)
+ الخط -

دشّنت الحكومة الاشتراكية الإسبانية، في العقد الماضي، تقليداً تمثَّل في إطلاق أسماء أعلام في الأدب والفكر الإسباني على المكتبات التي تحتضنها معاهد ثيربانتس المنتشرة عبر العالم، ويحظى المغرب بنصيب الأسد منها؛ لأن عددها فيه يبلغ ستة؛ وهي توجد في تطوان وطنجة وفاس والرباط والدار البيضاء ومراكش.

وكان أنْ عُمِّدَت مكتبة معهد ثيربانتس في تطوان باسم الشاعر بيثنتي ألكسندري (1898-1984)، الذي يُعدّ أبرز شعراء جيل 27 الإسباني، الذي ضمَّ غارثيا لوركا، ورفائيل ألبيرتي، ولويس ثيرنودا، وآخرين، وهو الوحيد من بين هذا السّرب الشّعري الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1977، وواحد من قلائل جيله الذين لم يغادروا إسبانيا هرباً من الديكتاتورية، بل استمرّ مقيماً فيها، واختار رعايةَ الشّعر والشعراء الجدد، فتحلَّقت حوله كلّ الأجيال الشعرية، وحافظ في الوقت نفسه على مسافة مع الحُكْم المتسلّط، دون أن يقطع صلته مع أبناء جيله الشعري الذين اختاروا عيشة الشتات طوعاً أو كرهاً.

لكن ما السرّ في إطلاق الدولة الإسبانية اسم ألكسندري على مكتبة ثيربانتيس في تطوان؟

تعود هذه التسمية إلى العلاقة التي أقامها عن بعد مع شعراء تطوان وبمجلة "المعتمد"؛ فقَبل أن يزور المدينة بمناسبة "عيد الكتاب" في شهر نيسان/ أبريل 1953؛ حيث ألقى سلسلة من المحاضرات بهذه المناسبة في طنجة وتطوان، وحظي باحتفاء من قِبَل المثقفين الإسبان والمغاربة، كان بيثنتي قد نشر في مجلة "المعتمد"، التي أسستْها الشاعرة ترينا مركادير. وأثناء زيارته، ستتوطَّد علاقته بشعرائها الإسبان والمغاربة.

لا شكّ، في أن المجلة فسحت لبيثنتي مساحة كافية في العدد 25 الذي ظهر في آذار/ مارس 1953، شهراً قبل حلوله في تطوان؛ إذ نُشرَتْ له فيها قصيدةٌ هي "فتاة عارية"، نقلها إلى العربية محمد العربي الخطابي، وتبعتها في العدد 26 "رسالة مغربية"، التي أرسلها إلى أصدقائه في "المعتمد" بعد عودته إلى مدريد، ضمَّنها انطباعاته عن زيارته لتطوان التي سحرته بأهلها ومعمارها وعاداتها، وبالرفقة الشابة من شعراء إسبان ومغاربة، مِمّن اصطحبوه أثناء جولاته عبر أحيائها الموريسكية القديمة، وهي الرسالة التي تُرجمت إلى العربية هي الأخرى.

وفي العدد 28 ظهرت قصيدته "قصة القلب" مترجَمةً، وفي العدد 30 نشر نصاً بعنوان "Estafeta" الذي يمكن إدراجُه ضمن أدب التراسل، وفيه استحضر معيشَه الطفولي في مالقة، وتحدَّث عن إنسانة كان يُكِنّ لها كثيراً من الوُدّ؛ هي الخيّاطة أنْخِليس.

كيف جَرُؤ بيثنتي على السفر إلى تطوان؟ فالمعروف عنه تفاديه ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً، نظراً إلى حاله الصحيّة الهشة، التي ربما كانت من أسباب عدم مغادرته لإسبانيا بعد سيطرة الديكتاتورية عليها. لقد وصف لنا الكاتب والشاعر الإسباني لويس أنطونيو فيِّينا عند زيارته لمعهد ثيربانتيس في طنجة عام 2007 ما كان يُعانيه بيثنتي أثناء أسفاره، ومع ذلك فقد أصرّ على حضور "عيد الكتاب" في تطوان.

لعل الجواب نجده عند صديقه، الشاعر والمترجم محمد الصباغ، الذي يحكي في سيرته "الطفولة الستون"، أنه صادف - إبَّان التحاقه بالعمل موظَّفاً في "المكتبة العامة" في تطوان - الشاعرة تْرينا مِرْكادير، التي كانت قد حلَّت بالمدينة هرباً من سأم مدينة العرائش، ومُتطلِّعة إلى أن تعثر في تطوان على مكان تُطوّر فيه مشاريعها الثقافية والأدبية، التي لم تكن لها حدود.

دار بين الاثنين، في اللقاء الأول، نقاشٌ أدبي ونقدي كان موضوعه الشاعر الأميركي والت ويتمان؛ لأن ديواناً للأخير كان بين يديِ الصباغ، وورد اسم بيثنتي ألكسندري طَيَّ هذا الكلام، لمّا أوضحت مِرْكادِير أن بيثنتي هو أقرب الشعراء الإسبان إلى ويتمان. في المرة الثانية التي التقى فيها الشاعران، حضرت الشاعرة الإسبانية بمعيَّة الشاعر المسؤول عن مجلة "كتامة"، خاثِينْتُو لوبِّيث غُورْخِي، وطلب الاثنان من المغربي أن يَتعاون معهما في إنجاح برنامج زيارة الشاعر بيثنتي إلى تطوان وطنجة وشفشاون عام 1953.

وبالفعل، تمّت الزيارة، وعرفت نجاحاً باهراً تبلور في الصلة التي عقدَها الشعراء المغاربة مع بيثنتي، خصوصاً الصباغ الذي متَّنها معه؛ لأنه زار ألكسندري مراراً في مدريد، ثم إنّ الأخير كتب للصباغ مقدّمة لديوانه بالإسبانية "شجرة النار"، الذي صدر بالإسبانية مترجماً بالتعاون مع مرْكادير، في سلسلة "اعتماد" قبل أن يُنشر بالعربية.

ومما قاله الإسباني عن المغربي في التقديم: "لشعر محمد الصباغ بالنسبة إليَّ أريج عتيق، وهو ذو انبثاق يتضوّع من قلب ينتمي للحاضر. إن شيئاً ما يَمسّنا عن قرب في صوت هذا الشاعر الشاب ذي اللسان العربي، الذي يصدح وسطَ شعبه بأغانٍ مُميَّزة، فيها كثير من الهوى الخاص، والمتنوّع والمؤثِّر، مثلما فيه نبرات تضامنٍ مضيئة". كذلك، أعان بينثتي الصَّباغَ في مراجعة بعض ترجماته إلى الإسبانية، مثل "همس الجفون" لميخائيل نعيمة، كما يسَّر له الاتصال بكُبريات دور النشر في إسبانيا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شتات الحرب والصمت
لم يظهر "جيل 27" سنة 1927 كما توحي بذلك التسمية، إذ لم تكن تلك السنة سوى موعد أول نشاط جماعي حين التقوا في مدينة إشبيلية. كانت تلك لحظة وعي بالمساحة الواسعة من التقاطعات في نصوصهم وشخصياتهم. الصعود بحسب مؤرخي الأدب الإسبان كان في 1923، أما النهاية فقد حدّدتها أول طلقة في الحرب الأهلية الإسبانية (1936)، هناك تشتّتت الاهتمامات وفضّل بعضهم الصمت. ولعل مقتل عضوها، لوركا، سبب إضافي للذوبان الطوعي.


اقرأ أيضاً: ليوبولْدو كاستِيّا: هذا أنا وهذه سيرتي

دلالات
المساهمون