الشعر خلف متاريس المقاومة

20 اغسطس 2014
+ الخط -

شكّل سميح القاسم، مع توفيق زياد ومحمود درويش وراشد حسين وبعض رفاقهم في الستينيات، مركز الشعرية الفلسطينية في الداخل المحتل؛ المركز الذي دل عليه غسان كنفاني بـ"شعراء الأرض المحتلة" أو "شعراء المقاومة"، لاحقاً. غير أنّ الأقدار شاءت لـ"أضلاع" هذا المربّع المقاوِم أن تفترق، كلّ في سبيله وإلى مشروعه الشعري الخاص، الذي لا ينفصل بالتأكيد عن الصراع مع العدو الصهيوني، ولا ينفصل عن فلسطين حلماً وثقافة.

مثل محمود درويش، الذي انطلق في قصيدته نحو المعنى الإنساني الكلي والجامع  للشعر، فعل سميح القاسم ذلك، وإن كان عبر شعرية مختلفة ومغايرة، حافظ فيها على النبرة العالية التي ميزت شعره، حتى في قصائده ذات النزعة الإنسانية والأسلوب المسرحي الذي عرف به.

وبهذا المعنى، يمكن القول إن القاسم كان متمترساً خلف لغته، منحازاً إلى بلاغتها التي تتطلب قدراً من المهارة وتستدعي درجة من السحر كي تكون إبداعاً. هكذا، ظل الشاعر الراحل حبيس مشروعه الشعري الخاص الذي وجد في مفردات المقاومة حياته ووجوده، وكان في هذا ظلم لشعريته التي جاءت واضحة في قصيدته "غوانتامو" أو في ديوانه "أشد من الماء حزناً". ولعل هذه المجموعة الأخيرة، بلغتها وبنائها، واحدةً من أفضل مجموعاته الشعرية.

ترك الراحل خلفه سيرة شعرية وأدبية قوامها 70 كتاباً، ما بين شعر ونثر ومسرحية، تؤرّخ للتغريبة الفلسطينية التي واكب أحداثها منذ "ثورة البراق" والإضراب الشهير، حتى العدوان الحالي على غزة. أهم تلك الآثار، شعراً، كان "مواكب الشمس"، و"دمي على كفي"، و"سقوط الأقنعة"، و"لا أستأذن أحداً". تضاف إلى ذلك مجموعات نثرية، أهمها "الرسائل" مع رفيقه الراحل محمود درويش.

علاقته بدرويش كانت عنصراً مهماً في مسيرته الشعرية. ذلك أنها شكّلت، في مرحلة ما، طريقاً للشاعر وقصيدته إلى خارج الوطن الفلسطيني المحتل، مثلما شكّلت لصاحب "لماذا تركت الحصان وحيداً" نافذة يطل من خلالها على الداخل الفلسطيني. هذا ما يستشف من الرسائل المتبادلة بينهما حتى سنوات متأخرة من منفى محمود درويش، قبيل عودته إلى البلاد بعد أوسلو، كما تدل على ذلك تواريخ الرسائل.

وتشكل محاولات القاسم في كتابة قصيدة الهايكو إحدى التجارب التي سعى من خلالها إلى فتح آفاق أخرى أمام قصيدته؛ إذ حاول إخراج لغته من سباتها واختراق المعتاد في كتابة شعر التفعيلة. كما دلّت هذه المحاولة على قدرته على الاتصال بالتجارب الشعرية الأخرى. ووفق هذه الصورة يمكن القول إن سميح القاسم أحد الذين اشتغلوا على تطوير القصيدة العربية بما لا يخرج عن ثابتها المعروف في الوزن والإيقاع، ما حافظ عليه الراحل حتى مجموعته الأخيرة "كولّاج 3" (2012).

كما امتاز شعر القاسم أيضاً بالمطوّلات الملحمية التي تتكئ على الأسطورة والميثولوجيا الكنعانية والسورية، إضافة إلى ارتكازه على التوراة والنص القرآني، وكذلك الوقائع التاريخية والتفاصيل اليومية تحت الاحتلال، لتخرج تغريبتها وموسيقاها الخاصة، التي لا تبتعد عن موسيقى الحداء، بنفَس ملحمي خاص بصاحبها.

أما سياسياً وثقافياً، فقد لاحقت الشاعر العديد من التهم، بالتطبيع مرة، كـ"رثاء جنود صهاينة" سقطت مروحيتهم في افتتاحية كتبها لـ"كل العرب"، وبالوقوف مع الطغاة في مرات أخرى، كمديحه لحافظ الأسد وكتابة رثاء تبجيلياً له. لكن القاسم في المقابل ثبت على مواقف تقدمية ولم يخف توجهه القومي العروبي، وكان يوقن أن الموقف الأخير هو للقصيدة. هكذا، جعل من شعر المقاومة متراساً يحتمي به من كل تهمة تلاحقه، وكان موقفه دائماً مع المقاومة وحقوق شعبه.

المساهمون