خصّصت كتبُ النقد الأدبي القديمة فصولاً لدراسة ظاهرة السرقة الأدبية وبيان مظاهرها ودرجاتها، وانتهت إلى أنَّها من خصائص القول الشعري، بل قد يُجيد بعض الأدباء في توظيفها، تصرّفاً في الأبيات المقتبسة. على أنَّ تلك الكتب استثنت عمليات النسخ والمَسخ المكشوفة، وعدّتها ليس فقط مثلبةً للشعر، بل عاراً يلاحق الشاعر وصيتَه.
ولئن وجدت السرقة الأدبية هكذا مخرجاً لتبريرها، فليس الأمر كذلك مع السرقة العلمية التي تواترت أخبارها مؤخراً، بين نهاية 2017 وبداية السنة الجارية، وهي ظاهرة قديمة راهنة، تتصل بانتحال الأبحاث والمقالات العلمية، وحتى الأطروحات التي نوقشت، جرياً وراء الحصول على الشهائد والألقاب الأكاديمية.
وقد عُرفت هذه الظاهرة في النُظم القانونية الغربية باسم: plagiat، وهو مصطلح مشتق من اللاتينية، ويُحيل، في معناه الأصلي، على حركة التصرّف في شخصٍ حرٍّ، بيعاً وشراءً، كما لو كان عبداً، ثم اتسعت دلالته لتشمل التصرّف في مِلكيات الغير، الفكرية والأدبية، وانتحالها كلياً أو استراق أجزاء منها دون إشارة إلى مصدرها.
ومن ذلك ما حدث في العدد المئوي من مجلة "فصول" المصرية، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حيث نشرت بحثاً من رسالة ماجستير لطالبة جزائرية، على أنه مقال علمي موجّه إلى المجلة، بتوقيع باحث تونسي "نَسَبه لنفسه زوراً وبهتاناً"، كما جاء في بيان اعتذار قدّمته المجلة مضيفةً: "قد تبيّن لهيئة تحرير المجلة، بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذا البحث مسروق كلياً". واللافت أنَّ السرقة اقترنت بالعدد المئوي، بما يحمله من رمزية، ويضعنا أمام ما يمكن للتهاون في مقاومة آفة السرقة العلمية أن يصنعه من إحراجات.
من الأمثلة الأخرى، في نفس هذه الفترة القريبة، ما أثارته الباحثة التونسية سلوى السعداوي، في نهاية 2017، حول نشر بحث لها في رسالة تخرّج في جامعة سعودية. والأغرب من ذلك أن مقالاً غير أكاديمي للكاتب تونسي كمال الرياحي قد انتحله "باحث" يمني. ويمكن استعراض حالات عديدة ذكرتها وسائل الإعلام وشبكات التواصل، بقطع النظر عن آلاف الحالات التي لم يُتفطّن إليها.
ذلك أنَّ التصدّي لهذا النوع من السرقات مهمّة يكاد يتحمّلها المؤلفون بصفة فردية بحتةً، حيث يشتكي أصحاب الأعمال الأصلية من الاستيلاء على مقالاتهم التي قد توقّع، جزئياً أو كلياً، بأسماء أخرى. وكان الأحرى أن تتولّى ذلك المؤسسات الجامعية والهياكل القانونية، التي من المفترض أن تتوفر على سلطة تتجاوز الحدود القُطْرية، بما أن السرقة العلمية، في الأمثال المذكورة، تراوغ الحدود بحثاً عن طمس آثار الجناية وإخفاء قرائنها.
تحميل مسؤولية اكتشاف السرقات العلمية للباحثين وحدهم، هو جناية ثانية في حقّهم، وقد لا ينتبه كثيرون إلى أنَّ اكتشاف هذه الحالات لا يضرب مصداقية الباحث المنتحِل وحده، بل أيضاً مؤسسته الجامعية، فضلاً عن أنَّ نشر البحث في مجلة علمية أو كتاب، يشوّه سمعة المؤسسات الناشرة ويضرّ بصورتها. وهكذا يتضح أنَّ انتشار ظاهرة السرقة العلمية مؤشر على وضع ثقافي شامل، وليس عملية معزولة يجري تحميل فرد ما مسؤوليتها، للاطمئنان بعدها أنها لن تتكرّر.
وفي خضمّ ذلك، ننسى مستوى آخر من السرقات العلمية يتمثّل في اختلاس صفحات متفرّقة من المعلومات المتاحة على الشبكة العنكبوتية دون أية إحالة على المرجع، وهذا المستوى منتشرٌ بشكل لا يمكن حصره، بسبب اعتقاد الكثيرين أنَّ المادة المنشورة على الصفحات الإلكترونية مَشاعٌ يمكن استعماله دون توثيقٍ.
ونظراً إلى تأخّر نظام التسجيل والأرْشَفة في الجامعات العربية، إذ لا نتوفر على رصيدٍ قومي موحدٍ، تُسجّل فيه عناوين الأطروحات ومواضيعها، وأسماء الأساتذة المشرفين عليها، كما لا نتوفر على رصيد مماثل في البلد الواحد لربط جامعاته، وتسجيل ما فيها من أبحاث، فإن عملية المراقبة والتثبت منعدمة أو تكاد.
خلق التهاون في التوثيق مناخاً ملائماً للسرقة العلمية في المؤسسات البحثية العربية، فاستشرت عمليات الاستيلاء ليس فقط على الموضوعات وبعض الفصول، بل في أحايين أخرى على العمل العلمي في كليته، دون أدنى تحوير أو تصرّف أو حتى تغييرات طفيفة.
وقد لا ينتبه سارقو الأبحاث إلى أن الوسيلة التي سهّلت عليهم عملية الاستيلاء على جهود الغير، أي: شبكة الإنترنت، هي نفسها التي تسهّل التعرّف على المسروق. كما توجد اليوم وسائل تقنية متعدّدة وبرمجيات خاصة تساعد على كشف السرقات والانتحال، تستعمل في المؤسسات الجامعية في الغرب بشكل ثابت، ولن تفتأ أن تصل هذه التقنيات إلى جامعاتنا، إلا إذا كان هناك من يريد للفوضى العلمية أن تظلّ جزءاً من واقع جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية.
على أنَّ الأهم من توفير أدوات كشف السرقات الأدبية، هو تبنّي الجامعيين، أكانوا طلبةً أو أستاذة، لأخلاقيات البحث العلمي، وإدراج ذلك ضمن المواد التي يتلقاها الباحثون حتى يتمكنوا من التمييز بين السرقة، والاستلهام، والاستناد حسب قواعد منهجية صارمة.
ولا تندرج مسألة أخلاقيات البحث ضمن هذا الإطار الأكاديمي فقط، بل هي جزء من إطار أعمّ، فهي محكومة بالثقافة السائدة في الحياة اليومية. وقد باتت البلاد العربية، في العقود الأخيرة، بيئة خصبة لتفريخ مظاهر الوصولية والبحث عن النجاح السهل وحبّ الظهور. وهذه البيئة هي التي تسمح لنبتة السرقة العلمية بالظهور والامتداد.
ومن شأن التساهل مع السرقة العلمية أن تدمّر مسار البحث العلمي برمّته، بما هو مسعى بحثٍ عن "الحقيقة"، يقوم بداهةً على النزاهة والتجرّد من الأهواء والذاتية، وهو مسار أشبه ما يكون بالورع الديني، وقد تَعَلْمَن في أروقة الجامعات، التي صارت، في عصرنا، القلعة الأخيرة الصامدة في الحفاظ على قيم العقل والتحري والنزاهة، ضمن ناموسٍ علمي لا غاية له سوى البلوغ إلى الحقائق، ونقل صورة الموضوع كما هو، فإذا تهاوى هذا الحصن لم يبق من ملاذ للحقيقة يحميها من هجمة الخطاب السياسي وتشويهات الأيديولوجيا وسطوة التقديس وتجاوزات وسائل الإعلام ومبالغاته، وعفوية وسائل التواصل الاجتماعي التي تمرّر كل ما يخطر ببال مستعمليها.
قد يفسّر النظر في واقع مؤسساتنا الجامعية العربية من زاوية السرقات العلمية، أسباب تأخّر تصنيفها في قائمات أفضل الجامعات في العالم، بداية بتخبّطها حيال هجمة الشبكة الإلكترونية، ووصولاً إلى غياب الحزم في مكافحة ظاهرة السرقة. فإذا كانت هذه الجامعات تسعى بحق إلى تحسين صورتها، فإنه من المجدي أن تضع هذه القضية ضمن أولوياتها، وإلا فإن السارقين سينخرون أعمدتها، كما فعل الجرذان بسد مأرب. وعلى سدنة معبد المعرفة تفقّد الجدران بشكل دؤوب حتى تظل الحقيقة محجّة القاصدين.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس