ياسر صافي: لا مسافة بين اللعب والقتل

25 ابريل 2015
"عسكرية"، من أعمال المعرض
+ الخط -
تبدو شخوص الفنان السوريّ ياسر صافي (1976)، البدائيّة، إذا صحّ التعبير، لصيقة بخلفيّات لوحاتها مثلما هي الرُّقُم المحفورة على الحجارة، إذ تظل شبه مغبرّة، ثابتة وعصية على التحوّل، رغم أن موضوع لوحاته، التي يمكننا مشاهدة مختارات منها في غاليري "مارك هاشم" (بيروت) حتى نهاية الشهر الجاري، ينحو منحىً لُعبياً درامياً ومكثفاً.

وتكاد هذه الهيئات المعوجّة، والمشوّهة أحياناً، ملطخةً ببقع كثيرة ومتداخلة، تتشارك حضورَها مع حضورٍ حيواني أليف وغريب في آن.

إنّ السرّ وراء عدم تحوّلها ومناعتها إزاء التبدّل، ربما، عائدٌ إلى انحدار صافي من خلفية الحفّار؛ تلك "الصّنعة" التي واظب على العمل عليها أكثر من عقدين. تكاد تكون شخوص لوحاته قادمة من عالم ذي سمة سينمائية، يجعلها تطفو على نفسها، مستعيدة ما لا يمكن استعادته ولا نسيانه.

إنّها مقيمة في عالم تتركّز معالم حكاياته البرزخيّة حول ما هو مغمور، منسيّ، هازئ، طفوليّ، ومليء بالتعاسة والوحشة الرهيبة. تأتي دراميّتها الداخلية المتكتّمة والمؤجّلة، من حيث تشكيلها التكويني الزاهد والمفتقر إلى الكمال الظاهري، إذ تبدو في مرحلة تتقطّع بين أن تكون الآن وبين أن تختفي متحوّلة إلى أثر متروك أخيراً.

والحال هذه، لا يأخذنا صافي بعيداً عمّا يحيط بنا: فضاء المخيم، ظروف النازحين، هناءة الملعب، قلب الشارع، وعسكرة المجتمع والحياة العامة، إضافة إلى دُمى الأطفال الذين غدوا بلا ألعاب، بل تحولت ألعابهم "الحربية" المسلّية في ما مضى، وقد كانت كذلك بالفعل، إلى كوارث يومية وكوابيس حقيقية منذ أكثر من أربع سنوات مرّت على عموم السوريين.

"مخيّم"، أكريليك على قماش، 180 × 140 سم، 2014


لا يمكننا العثور بدايةً على سبب مباشر لما يجعل صافي عاجزاً عن إكمال لوحاته، عن مدّ أطرافها أكثر، أو إخفاء التواءاتها. والجواب لا يكمن طبعاً في حجمها الكبير. تبدو هذه اللوحات غير منجزة، مؤقتة، مؤجلة، برزخيّة، حائرة بين زمنين: زمن تذكّرها وزمن استعادتها منجزَةً ومتكاملة.

إنها تنتظر من يكملها، وتستدعي من يشاركها. في هذه المسافة بين تأجيل العمل وشدة العمل عليه، ما يدفع بنا إلى رؤية مضاعفة لهذه اللوحات. إنها قادمة من آثار ومن لُقَىً قريبة مما هو مُكتَشَف ومنزوع من عالم قديم، قدم البراءة والعذاب معاً.

على هذا النحو يمكننا القول إن أعمال صافي قديمة من حيث أسلوبها وهيئاتها، قديمة من حيث شكلها العاجز والباحث عن كمال إنساني بسيط وواضح. إنها قديمة وحالها من حال قِدَم التهريج وقِدَم اللعب وقِدَم الطفولة وقدم الخراب البشري، لكن مواضيعها ليست قديمة في شيء.

على العكس من ذلك، تظهر مواضيعها ذات آنيّة ساخنة وأليمة إلى حدّ الفجيعة، غير أننا مع ذلك لا نرى دماً في لوحاته، ولا نرى دماراً خارجياً، ذلك أنها مدمّرة من الداخل، وهذا ما يجعل خطوطها الخارجية الفائضة عن الجسد دالّةً على التواء وانفلاش بارزين، مع وضعيات غير طبيعية، على العكس من عناوين لوحاته ذات الدلالات العادية الحسية والمعنوية المباشرة، والمفردة في معظمها: "مخيم"، "ملاكم"، "برميل"، "شارع"، "جنرال"، "لاعب"، "حارس مرمى"، "رجل + أرنب".

الألوان التي يستخدمها صافي مشبعة وقوية، ألوان خام تقريباً، حمراء وبيضاء وزرقاء، خضراء وصفراء، نازفة ومعجونة ببعضها بعضاً، تكوّن بقعاً داكنة وممتلئة ومنتشرة في أكثر من محل في اللوحة، بحيث تحوّلها إلى مادة متراكبة ذات سطوح عميقة. أمام قوة اللون هذه، تظهر الشخوص عديمة القوة، ذابلة، هشّة، معطوبة، حائرة ومتسائلة. إنها خالية من الرغبة ربما، ومن الحاجة. أي أنها تبدو مقيدة فيما هي تسعى إلى الخلاص.

إن أي فعل عادي يتحول لديها إلى عائق. يمكننا أيضاً ملاحظة هذا التناقض الفارق بين الهيئات الضخمة للشخوص أمام أسلحة صغيرة كالهليكوبتر الذي طالما قذف السوريين بالبراميل، وكذلك أيضاً البراميل التي نراها حتى داخل خيمة إذ تتحول من آلة إفناء ودمار إلى وعاء بدائي لجمع المياه والاستحمام، الذي هو نوع من أنواع الرفاهية تحت ثقل وبؤس ظروف النازحين السوريين.

الآلة القوية عديمة العين، تتحوّل إلى دمية جامدة. لكن الأشخاص أنفسهم أشبه بالدمى منهم إلى كائنات بشرية متكاملة وناضجة التكوين. هنا لا نجد مسافة بين الرمز والدلالة، بين الحيواني والبشري، بين الكابوس والحلم، بين اللعب والقتل.

نحن في مساحة مخصّصة للعب، بعيداً عن مأساة كلّ حرب. يبقى من الصعب القول إن الحرب لعبة، إلا إذا فقد اللعب معناه الأساسي، وتحوّل إلى عبثٍ جهنميّ وكارثة يومية، حيث يصبح "الشارع"، كما هو عنوان إحدى أجمل لوحات ياسر صافي، كابوساً آخر، بلا أي فارق بين من تحوّل جسده إلى حجارة الشارع تحت ثقل خطوات الرعب والأسى والهشاشة، ومن سكنه الكابوس كاتماً كيانه كاملاً.

المساهمون