خافيير ثيركاس: بحثاً عن المجهول الذي قال "لا"

17 فبراير 2015
+ الخط -

في بداية عشرينيات القرن الماضي يُولد بطل رواية "المحتال" للكاتب الإسباني خافيير ثيركاس، إذ تضع والدة أنريك ماركو - المصابة بالفُصام - طفلها، في مصح "سان بوي دي يوبريغات" للأمراض النفسيّة بالقرب من برشلونة.

بعد هذا بسنوات، ستلتهم نيران الحرب الأهلية ما يكفي من الأجساد، قبل أن تنطفئ بانتصار فرانكو، ثم تأتي الحرب العالمية الثانية، وتسوق الآلاف إلى معسكرات الاعتقال بترحيب من الفاشيين. تمرّ سنوات أخرى وتنتهي الحرب، ويصير الصمت الذي يعني "نعم" ذراع الحُكم اليُمنى.

في هذه الظروف يبحث ماركو عن لقمة عيشه متوارياً عن عيون الواقع، حتى تسنح الفرصة بداية الثمانينيات، عقب موت فرانكو، فيقدّم نفسه بطلاً كما فعل كثيرون. تبدأ القصة بتلفيقٍ عبقري يخرج فيه ماركو من الحرب الأهلية، محارباً قديماً ومناهضاً للفاشيّة، ومن ثمّ أحد الناجين بأعجوبة من معتقل "فلوسبيرغ" في ألمانيا النازيّة.

عمد ثيركاس (1962) في "المحتال" (راندوم هاوس، 2014) إلى أن يحكي قصّة حياة ماركو بشقّيها: الحقيقي والمزيّف. وأكد منذ الفصل الأول وهو يتحدث عن ظروف كتابتها، أن هذه الرواية واقعية خالية تماماً من الفنتازيا. إنها رواية بلا تخيُّلٍ، وإن كان ثمة اختلاق فهو من صنيع الشخصية نفسها، "الخيال يضعه ماركو"، يقول ثيركاس.

ماركو إذاً هو المحتال؛ رجلٌ كهل تمكّن في أوائل عقد التسعينيات من خداع الكلّ بلا استثناء، فهو لم يكن يوماً مناضلاً عاش في المنفى ولا معتقلاً في ألمانيا.

بعد الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، ينتقل ماركو إلى بيت جديد، ويتزوّج من امرأة أخرى، ويغيّر سيارته، وحتى اسمه. يغدو شخصية مهمّة، وبالكاد تكفيه ساعات النهار، إذ يطوف بين صالات المؤتمرات واستوديوهات الراديو والتلفزيون، ويحرك مشاعر الملايين ببراعة قاصٍّ متمرّس؛ صار العجوز العاطفيّ متّقد الذاكرة يستدرّ الدموع من عيون البرلمانيّين والرؤساء. يترأّس جميعة Amical de Mauthausen التي تجمع في إسبانيا معظم الناجين من المعتقلات النازية وعوائلهم.

وفي العام 2005، يُوشك ماركو أن يكون أوّل إسبانيّ يتحدّث من معتقل "ماوتهاوزن" في النمسا أمام رئيس حكومة بلاده (ثاباتيرو) وغيره من كبار السياسيين، لكن مؤرّخاً إسبانياً مغموراً (بينيتو بيرميخو) يستبقه وينزع عن وجهه قناعه الثمين ويكشف كذبه، فتضجّ الصحف الإسبانية والعالمية بالفضيحة واحدةً تلو أخرى. وحين يقرأ الكاتب ثيركاس الخبر، تراوده فكرة الكتابة مُقلقةً ومُخيفةً، ويشعر أن في ماركو شيئاً يخصّه ويخصّ كل واحد منّا على نحو عميق جداً.

في الكثير من روايات ثيركاس، يعمد الأبطال في أقسى اللحظات إلى قول "لا". في "جنود سالامينا" مثلاً، يقرر جنديّ من الجمهوريين، ألا يطلق النار على رافاييل سانشيز الذي كان يجب أن يقتله، بعد أن قبض عليه.

تبدو الرواية وكأنها تتحدّث عن سانشيز الكاتب والصحافي الذي كان موالياً للكتائب الفاشيّة، لكن في الحقيقة، ثيركاس كان يتحدّث فيها عن الموتى والأبطال، ويبحث عن الجنديّ المجهول الذي قال "لا" ليُنقذ مثقال ذرّة من القيم المتهالكة. ماركو قال "نعم" طوال حياته، لكن القارئ سيفكّر: هل قال "لا" في النهاية عندما اعترف بأكاذيبه؟

الرواية لا تتحدّث عن خديعة ماركو إذاً، إنما يستعملها الكاتب حُجّةً ليعرّي من خلالها عجزنا عن مواجهة حقيقتنا، ويكشف كيف أننا نختلق أنفسنا على الدوام، وأننا جميعنا ممثلون رديئون على خشبة مسرح الحياة. إننا نحن، ولسنا نحن. نروي أنفسنا في رواية خياليّة نُلفّقها لأننا، فيها، نريد أن ننجو دائماً.

لم يكن الرجل أحمقاً أو معتوهاً، فقد حاك شبكة معقّدة من الأكاذيب بذكاء فريد. يصفه ثيركاس بـ "مارادونا الاحتيال"، لكنه "لم يفعل ذلك لأجل المال. لم يكن ماركو يحبّ حياته، وكلّ ما أراده هو أن يُحبَّه الناس". في إحدى المرّات، يقول له ماركو: "أرجوك، اتركْ لي شيئاً". يتضاعف شعور ثيركاس بالخوف، وتسري القشعريرة في جسده، إنه يعرف السبب، هو الذي يسعى لفهم لماذا فعل ماركو ما فعل.

مع ذلك، في لقاءات عديدة مع ماركو، سيُكمل، وإنْ مُستمَالاً بالرأفة، البحثَ عمّا تتطلّبه رواية تُشيّد عالماً درامياً صادماً، مكشوفاً، ومرصّعاً بإسقاطاتٍ تُطبِق على الحقيقة-الخيال، سيشعر فيها القارئ أن ماركو يعنيه بشكل أو بآخر.

يقول ماركو في اعترافه، متهرّباً من اعتذارات صريحة، إنه لم يقترف خطيئة تستدعي احتقاراً، فكل الأمر كان أكاذيبَ صغيرة، في النهاية، ساهمت في التعريف بالهولوكوست. لكنّ ثيركاس يعترض بشدّة على مفهوم ما سُمّيَ بـ "الذاكرة الجمعيّة" الذي يدافع عنه بعض الكُتّاب والصحافيين، إنه يسمّيه "صناعة الذاكرة". "فما قام به مثل هؤلاء ساهم في نشر "كيتش" الهولوكوست ليس إلّا، وهو هنا أكذوبة الهولوكوست السنتمنتاليّة"، "وإنّ تحوُّل الذاكرة إلى تجارة يقود إلى رسم ماضٍ مُنمّقٍ ومُعالَجٍ بعاطفيّة مفرطة".

كما حدث في إسبانيا حيث لم يُعوَّض الضحايا - أو عائلاتهم - لا معنوياً ولا مادياً، ولا حتى تمّت مُقاضاة الجُناة، وارتُكِب، إضافة إلى ذلك، خطأ كبير: صُيِّر الضحيّة بطلاً. في الرواية أيضاً إدانة لوسائل الإعلام التي تغذّي "صناعة الذاكرة"، فالقائمون عليها متورّطون، ومسؤولون؛ هم حاملو مرايا لا تعكس الحقيقة، إنّما تبتكرها.

تُحيلنا القضية في سياق شبيه إلى الكاتب الإيطالي بريمو ليفي الذي روى تجربته المروّعة في "أوشفيتز"، ورغم الشهرة التي جلبها له كتابه "أهذا هو الإنسان؟"، بقي يعمل في مصنعٍ لمواد الطلاء، وحافظ على موقفه الأخلاقيّ تجاه القضايا الإنسانية، قبل أن يُنهي حياته منتحراً.

يدعو ثيركاس إلى قراءة "المحتال" بصورة مشابهة لقراءة "دون كيخوته"، فبطلُ ثربانتس ظلّ يقرأ كتب الفروسية لسنوات وسنوات مُعتزِلاً في قرية نائية في إقليم لامانشا، ليخترع نفسه متحوّلاً إلى دون كيخوته الفارس الجوّال، ثم في نهاية الرواية، وهو على فراش الموت، يقول متنازلاً: "لم أعد دون كيخوته بعد الآن، إنّي ألونسو كيخانو".

ثربانتس إذاً يُنقذ ألونسو ويجعله يموت متصالحاً مع نفسه؛ مع حقيقته. وثيركاس يحاول في روايته إنقاذ نفسه وإنقاذ الجميع؛ ويريد لماركو أن يتصالح مع ذاته.

من جهة أخرى، يستخدم ثيركاس لغة سرديّة قاهرة تجري متسارعةً بعض الشيء، بيد أنها تبقى هوسيّة ومدروسة بعناية، تكثر فيها التأمّلات والاقتباسات، وتتوسّع المواضيع وتُدحَضُ الأكاذيب، وتعتري الفوضى الترتيبَ فيها أحياناً بتواترٍ قد يكون متعمَّداً. يستعيد ثيركاس في أحد اللقاءات قول الشاعر الروماني هوراتيوس: "الأسطورة تحكي عنكَ أنت"، ويبدو أنّ هذا ما حاول امتحانه في روايته.

المساهمون