صدر قديماً: "غابر الأندلس وحاضرها" لمحمد كرد علي

11 نوفمبر 2017
("الخيرالدا"، ما كان مئذنة "المسجد الكبير" في إشبيلية العربية)
+ الخط -

يطرح كتاب "غابر الأندلس وحاضرها" لـ محمد كرد علي (1876 - 1953)، الصادر عام 1923 على قارئه إشكالية تصنيفه، إذ يمكن أن يصنّف ضمن أدب الرحلة، لأن المؤلِّف كتبه بتحفيز من رحلة قام بها إلى إسبانيا في بداية العشرينيات من القرن الماضي فزار بعض المدن التي ما تزال تحفظ آثار العرب في الأندلس؛ لكنه يزاوج بين الوصف والسرد، وأغلب سروده تستحضر تاريخ الأندلس من خلال أمهات المراجع المختصة في الأندلسيات تاريخاً وحضارة وأدباً، وهكذا زاوج في تأليفه بين المشاهدات والمحاورات من جهة، وبين سرد الأحداث التاريخية والمعارف المستخرجة من الكتب، وتعليقه عليها لإبراز دلالاتها العميقة في الماضي والحاضر والآتي.

لقد كانت غاية كرد علي تقريب القرّاء من ماضي الأندلس وحاضرها وما شهدته من سقوطٍ بعد أفول مجدها، وهو ما يعتبره المؤلف عبرة للأجيال، يقول في ديباجة الكتاب: "زرت في الشتاء الماضي ( 1340- 1922) بعض أمهات مدن الأندلس فأرادني غير واحد من الأحباب على أن أحدّثهم بطرف مما شاهدت في ربوعها من بقايا حضارة العرب، فأجبتهم إلى رغبتهم، شاكراً حسن ظنهم، وقد رأيت أن أشفع مشاهداتي، بشيء من مطالعاتي، عن هذا القطر ليتعرّف القارئ من الغابر وجه الحاضر، ويقيس في الجملة ما كان هناك في عهد أمتنا، على ما هو كائن اليوم في عهد غيرهم، أذكر ما أثره العرب في تلك القاصية من حضارة، وأثلوه من مجد خالد على جبين الدهر، والسبب الذي به ارتفعت الأندلس حتى عدّت أرقى مملكة في عهد شبابها، والأعراض التي عرضت لها، فهزمت فزال سلطانها، وتداعى عمرانها، وذُعر سكانها، وربما نفعت في الأخلاف سيرة الأسلاف".

تجدر الإشارة أن المؤلف لغويٌّ وكاتب ومؤرّخ وناقد أدبي سوري، عُيّن رئيساً للمجمع العلمي العربي في دمشق إبان إنشائه سنة 1919 واستمر على رأسه حتى رحيله سنة 1953 وهو الذي سيحمل في ما بعد "اسم المجمع اللغوي العربي لدمشق"، وقد ألف كرد علي العديد من الكتب من بينها كتاب "غابر الأندلس وحاضرها".

في مستهل الكتاب، عرضٌ لأهم المصادر والمراجع التي اعتمدها، وهي تتجاوز السبعين، من بينها: "نفح الطيب" للمقري، و"المعجب في تلخيص أخبار المغرب" للمراكشي و"قلائد العقيان" للفتح بن خاقان، و"البيان المُغْرِب في أخبار الأندلس والمغرب" لابن عذارى، و"الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب، و"طوق الحمامة" لـابن حزم، و"الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لابن بسام.

وشملت مراجعه كتب المستشرقين الإسبان وغيرهم من مثل: كوديرا وريبيرا وغوميث مورينو وإيميليو لا فويتتي إي ألكانترا وأسين بالاثيوس. ويتلو ذلك بتحية يوجهها للأندلس مبرزاً أسباب عشقه لها. يقول "عشقتها ولم تسعدني الأيام بإمتاع النظر في جمالها، واستطلعت طلع أخبارها، فروى الرواة عنها عجائب أقلها مما يستهوي النفوس المتمردة [...] عشقتها منذ عهد الصبا، وعشق الصبا شديد، لما قرأته الباصرة من وصف سجاياها وحملته إلى البصيرة ففكرت فيه، وتدبرت خوافيه وحواشيه، وزادني غراماً بها ما سمعت من أن أناساً قبلي أصيبوا بما أصبت به، وعدوا النزول في حماها ولو ساعة سعادة العمر، وحسنة الدهر: العشق فنون وعشقي كان لأرض أندلس عليها من كل عربي ألف ألف سلام، على مر العصور والأيام..." ثم يرثي زوال شمس العرب عنها بمناجاة ذاتية روح العاشق فيها مغرمة متيمة.

في الفصل الثالث، يتحدث عن مصدر التسمية بالأندلس، يقدم وصفاً جغرافياً لها وما دان منها للعرب، معتمداً على المسعودي والمراكشي ثم القلقشندي الذي يصف ما تبقى من الأندلس تحت حكم العرب في القرن الثامن وهو غرناطة وشرق الأندلس.

وفي الفصل الموالي يستعيد كرد علي معطيات تاريخية عن فتح الأندلس وعن الفاتحين الأولين منذ موسى بن نصير وطريف وطارق بن زياد، وعن المواجهة بين جيش طارق وجيش رذريق وهزيمة هذا الأخير، ثم دخول موسى بن نصير لإتمام الفتوحات، وفي الفصل نفس يستعرض أهم المحطات التاريخية وصولاً إلى تولي الأمويين الحكم تحت قيادة عبد الرحمن الداخل بعد هروبه من دمشق إثر انهيار دولة الأمويين بالمشرق، ثم حال الأندلس على عهد ملوك الطوائف والمرابطين ثم الموحدين تباعاً.

من الأحداث المركزية التي يتوقف عندها المؤلف -وهو يسرد تاريخ الأندلس- هزيمة المسلمين في "موقعة العقاب" وما تلاها من تقهقر ثم سقوط انتهى في الأخير باستسلام مملكة غرناطة آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس، وما تلا ذلك من محن التنكيل والتنصير والتعذيب والترحيل والتقتيل على يد محاكم التفتيش، وهذا الموضوع سيعود إليه ليفصله بتدقيق أكبر لاحقاً في الفصلين المعنونين بـ "جلاء المسلمين وتنصيرهم" و"سقوط الأندلس".

خصّص الكاتب أيضاً فصلاً للعمران الأندلسي، من خلال مسارات رحلته التي زار خلالها مجريط، وهي مدريد اليوم، ودير الإسكوريال وقرطبة ومدينة الزهراء وإشبيلية وغرناطة وقصر الحمراء، كما أفرد فصلاً لكتابات الحمراء، أي ما يطلق عليه بالقصوريات، مستشهداً بالقصائد التي زيّنت جدران قصور الحمراء الثلاثة، واستحضر أبياتاً من قصائد أندلسية خارج القصوريات استلهمت سحر قرطبة ومدينتي الزهراء والزاهرة.

وتحدث أيضاً بتفصيل عن مظاهر الحضارة والعلوم والفنون والصناعات في الأندلس وعن أهم المآثر التي تركها العرب فيها والتي بقيت شاهدة على مجدهم ورقيهم، فذكر أسماء نوابغ العلماء ونبذاً قصيرة من سيرهم، في مختلف العلوم التي ازدهرت على عهد العرب كعلم الفلك وعمل الأسطرلابات والأزياج والتوقيت والجغرافيا وعلم المنطق والفلسفة والطب والصيدلة والطبيعة والكيمياء والرياضيات والحساب والجغرافيا والهندسة والعمران والفلاحة والاجتماع والتاريخ، ناهيك عن علوم الفقه والفرائض والكلام علوم اللغة نحواً وصرفاً وبلاغة وأدباً.

كما ينقل المؤلف أخبار لقاءاته مع بعض الأعلام البارزين أثناء رحلته مثل لقائه مع المستشرق الإسباني أسين بلاثيوس، أستاذ كرسي الآداب العربية في جامعة مدريد والسينيور أوسما وزير المالية آنئذ، ومؤسس متحف بلنسية للدون خوان في مدريد، وغيرهما من الشخصيات الإسبانية في تلك الحقبة من التاريخ. وقد امتدت رحلة محمد كرد علي إلى الجزيرة الخضراء وجبل طارق وطنجة، ونقل في الكتاب بعض انطباعاته وشهاداته عن تلك الزيارات حين كانت طنجة ترزح تحت قبضة الاحتلال.

المساهمون