"ترجمة الموسوعات": حيرة داخل دائرة المعارف

09 ابريل 2019
(تجهيز للفنانة الأميركية الباكستانية أنيلا قيوم آغا)
+ الخط -

تقع الموسوعات ضمن أعقد عمليات الإنتاج الثقافي، نظراً لما تحتاج إليه من اتساع أفق معرفي ومنهجيات في الترتيب والتنفيذ. وهي إلى ذلك تثير الكثير من الأسئلة حول الظروف الملائمة لإنتاج هذا النوع من الكتابة، وما الذي يفسّر تنشّطها في زمن وانحسارها في زمن آخر، وهل هي ضرورة ثقافية أم من الكماليات التي لا يجدر الالتفات إليها قبل توفير ما هو أكثر إلحاحاً. هذه الإشكاليات تتراكب مع إشكاليات الترجمة، وهي عديدة، منذ أن يُطرَح سؤال "ترجمة الموسوعات"، الذي كان عنوان ندوة أقيمت يوم الجمعة الماضي ضمن فعاليات "معرض تونس الدولي للكتاب"، بمشاركة باحثين تونسيين من مرجعيات معرفة متعددة، هم: يوسف الصدّيق وعبد المجيد الشرفي وتوفيق بن عامر.

أدارت الندوة الكاتبة فاطمة الأخضر، وقد انطلقت من إشارات إلى أن للعرب باعاً في تأليف الموسوعات، إذ تعدّ أعمالاً مثل "الأغاني" للأصفهاني و"العقد الفريد" لابن عبد ربه و"الحيوان" للجاحظ و"القانون" لابن سينا، وتتساءل: "أليست من جنس الموسوعات وإن لم يسمّها العرب القدماء كذلك؟". كما عرّجت الأخضر على تجارب غربية في إنتاج الموسوعات وكيف تأخّر العرب عن هذه الصناعة الثقافية، قبل أن تفتح النقاش ضمن أفق تساؤل رئيسي: ما الجدوى التي ننتظرها من ترجمة الموسوعات؟

في كلمته، وتعقيباً على ما ذكرته الأخضر، يفرّق الباحث توفيق بن عامر بين الموسوعات والتأليف الموسوعي، مشيراً إلى أن الحضارة العربية قد عرفت التأليف الموسوعي لكنها لم تعرف الموسوعات بالمعنى الحديث، لأن الأخيرة جزء من مسارات الحداثة، إذ كانت في حاجة لا فقط إلى المؤلف الموسوعي بل أيضاً إلى الناشر والمموّل. الموسوعة بالنسبة إلى بن عامر تمثّل تطوّراً تاريخياً عن المعجم، وإذا كان يُحسب للعربية أنها أنتجت المعاجم بشكل عفوي بميكانيزماتها الداخلية، فإنها في المقابل لم تنتج الموسوعات إلا بالأخذ على النموذج الغربي.

كما ينبّه بن عامر إلى أن التأليف الموسوعي ليس بالضرورة مؤشراً يدلّ على ازدهار العلوم والمعارف، إذ يقول: "هناك سمتان للتأليف الموسوعي، الأولى حين يكون سنداً لفكرة التطوّر، والثانية حين يكون داعماً للانغلاق، ومثال ذلك موسوعات كثيرة يحكمها الاجترار والتكرار". لعلّ من الممكن تطبيق هذه الفكرة على مسألة تعريب الموسوعات في عصرنا، ذلك أن ترجمتها من اللغات الأوروبية لا يعني بالضرورة ازدهاراً في حياتنا الثقافية.

وحول واقع نقل الموسوعات إلى العربية، يعتبر بن عامر أنه من غير المقبول ألا تشتمل العربية على موسوعات كثيرة في العالم، بعضها يعدّ ضمن المتوسط المعرفي للباحث العادي، وهو هنا يعطف على إشكالية تبرز في الثقافة العربية وهي عدم استكمال مشاريع ترجمة الموسوعات، ويشير إلى مشاريع توقفت في منتصف الطريق، وبذلك فإن الترجمة تصبح بلا فائدة تقريباً.

من جهته، تحدّث عبد المجيد الشرفي عن الفكر الموسوعي، باعتباره تعبيراً عن سعي للإحاطة بالمعارف في عصر من العصور، لكنه ينبّه إلى أن الموسوعات إنما تسعى إلى نشر المعرفة على نطاق واسع، وهي بالتالي موجّهة لغير المتخصّص. أما المتخصّصون فهي بالنسبة إليهم غير كافية ولا يمكن اعتمادها إلا مدخلاً.

تحدّث الشرفي أيضاً عن علاقة الموسوعات بمراحل الازدهار أو الركود، إذ يمكنها أن تكون سمة لهذا العصر أو ذاك؛ ففي أحد عصور الإسلام، كانت الموسوعات رافداً لتغذية الثقافة العربية بعلوم الهند وفارس واليونان وغيرها، ثم في عصور أخرى ظهرت موسوعات تتحرّك في إطار ضيّق من علوم الدين واللغة، وهي أعمال على ضخامة الجهود في إنجازها ودقّتها وتماسكها، إنما تشير إلى رغبة في تكريس المكرّس وتثبيت حدوده تحت عنوان "جمع ما يُخشى ضياعه". كما يلحّ الشرفي على ضرورة الانتباه في كل مرة إلى ما وراء الموسوعات، فهي ليس فقط ذات غايات معرفية، بل يمكن أن تكون لها أدوار أخرى كحال موسوعة "وصف مصر" التي وإن بدت موسوعة في التاريخ والطبيعة والحياة الاجتماعية، إلا أنها كانت تحمل مشروعاً استعمارياً معها. يضيف هنا: "ينبغي إذن أن نحدّد في كل مرة ما أريد من إنجاز الموسوعات".

يعرّج صاحب كتاب "الإسلام والحداثة" على تجربة "الموسوعة التونسية المفتوحة"، التي أطلقتها مؤسسة "بيت الحكمة" في تونس، والتي يشرف عليها، ومن خلالها يتطرّق إلى مستوى آخر من إشكاليات الموسوعات، وهي المحامل التي تقدّمها بين الورقي والإلكتروني. يقول الشرفي: "أصدرنا جزئين من الموسوعة ولكن لا يمكن الاستمرار في النسخة الورقية وحدها، هناك دائماً إمكانية للإضافة، وهذا غير ممكن مع الطبعة الورقية، وبالتالي فالرقمي يفرض نفسه فرضاً".

يضيف: "لا أعتقد أن الموسوعات الورقية ستصمد، وهذا عائد لا فقط إلى عدم قدرة الورق على حصر المعرفة، وإنما أيضاً إلى تغيرات في عادات القراءة، فقارئ اليوم بات يفكّر في انتهال المعلومة إلكترونياً أكثر من الذهاب إلى الكتاب الورقي، وعلى واضعي الموسوعات أن يتفاعلوا مع هذا الشكل من تمرير المعرفة".

في كلمته، انطلق يوسف الصدّيق من تجربته الخاصة مترجماً، إذ يقول: "خلال قرابة أربعة عقود، أعتقد أنني مارست كل أنواع الترجمة، سواء من الفرنسية إلى العربية أو العكس، أو من اليونانية القديمة إلى العربية، وهو ما يجعلني أقف على إشكاليات عديدة حين نتصدّى إلى ترجمة الموسوعات". من هذه الإشكاليات، يعتبر أن مترجم الموسوعات إلى العربية يجد صعوبة في توفير مقابلات لغوية كثيرة، في حين أن اللغة العربية لا تسير بنفس سرعة الإنتاج المصطلحي مع لغات أخرى.

يعتبر صاحب "هل قرأنا القرآن؟" أن الوقوف أمام سؤال ترجمة الموسوعات، هو فرصة لنتعرّف إلى ما تحتاج إليه لغتنا العربية من إسناد بحثي ومعجمي. يشير الصدّيق هنا إلى خاصّية يسميها "صهر الدخيل الأجنبي"، وهي "خبرة وكأنها أُهملت حتى خسرها العرب وكانت توفّر للحضارة العربية حاجاتها من المصطلحات، ومن ذلك كلمات مثل موسيقى وفلسفة".

خلال النقاش، استأنف الصدّيق فكرة طرحها اللغوي التونسي صلاح الدين الشريف حين تساءل: "قبل ترجمة الموسوعات، هل أن ثقافتنا مستعدة لاستقبال روح الموسوعة؟". يشير الصدّيق إلى أن لديه حيرة حقيقية في هذا الاتجاه، فـ"ما لم نعرف شيئاً عن وجود استعدادات لدى القارئ العربي للاستفادة من هذه الموسوعات، فلماذا إذن نترجمها؟ أليس أجدى أن تذهب الجهود في اتجاهات أخرى"، ولعلّه يذهب إلى أن يطّلع الباحثون العرب على الموسوعات الأجنبية وينتجوها مباشرة بلغتهم.

في ختام الجلسة، اعتبرت فاطمة الأخضر أنه "لا ينبغي أن يحبطنا الموجود، فقد تكون ترجمة الموسوعات حاثّة على بناء الذهنية الموسوعية في المجتمع"، خاتمة حديثها بالقول: "يجب أن نريد الحياة لهذه اللغة".

المساهمون