لا يخفى على أحد أن الاهتمام التركي بالثقافة والأدب العربييْن قد أخذ منحى جديداً في العقود الأخيرة، رغم جميع السياسات التي مورست على الأتراك لعقود منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، ومحاولاته المعروفة في عزل تركيا عن جوارها العربي، وإقصاء الثقافة العربية في تركيا، بدءاً من اعتماد الحرف اللاتيني بدلاً من الحرف العربي في الأبجدية العثمانية عام 1928، حتى "تطهير" اللغة التركية من الكلمات العربية (والفارسية أيضاً).
وفي سبيل ذلك، أسّس أتاتورك "الجمعية الألسنية" لتقوم بهذه المهمّة اللغوية، كما أقام العديد من المؤتمرات اللغوية التي دعا إليها كبار علماء اللغة حول العالم لإيجاد وسيلة لسدّ الفراغ الذي أحدثه غياب المفردات العربية في التركية الحديثة التي أرادها أن تكون، لكنها لم تستمرّ طويلاً. فحركة الإصلاح اللغوي لم تستطع أن تحلّ هذه المعضلة، وأخيراً قُدّمت إلى أتاتورك نظرية عُرفت باسم "لغة الشمس"، واستندت إلى أن كلّ اللغات قد اشتُقت من لغة بدائية كانت تُحكى في آسيا الوسطى ثمّ تطوّرت عنها، فلا حاجة إذاً إلى "تطهير" اللغة التركية.
ولعلّ أبرز علامات هذا الاهتمام القديم/ المتجدّد بالثقافة العربية في تركيا هو قسم اللغة العربية، المتفرّع من قسم اللغات الشرقية بكلية الآداب في "جامعة إسطنبول"، وهي أعرق جامعة تركية. ويشبه صرح اللغة العربية فيها "دار العلوم" القاهرية، في مناهجه التي تشمل علوم اللغة العربية بأكملها، وتاريخ الأدب العربي في مراحله المختلفة.
شهد العقدان الأخيران إقبالاً كبيراً من الطلاب الأتراك على تعلّم اللغة العربية وآدابها، بعد أن كان الالتحاق بهذا القسم سابقاً يقتصر على الراغبين في تعلّم القرآن فقط. كما يرى الأكاديمي والمترجم عمر إسحاق أوغلو، أحد أساتذة اللغة العربية وآدابها في "جامعة إسطنبول"، في حديثه إلى "العربي الجديد"، الذي يرى: "أن الإقبال على الثقافة العربية لم يتوقّف لدى الأتراك حتى في عهد أتاتورك، لكنه ازداد فقط في العقدين الأخيرين، وفقاً لسياسات الحزب الحاكم وانفتاحه على البلدان العربية".
يضيف: "قسم اللغة العربية منذ تأسيسه في أول أربعينيات القرن الماضي واستقلاله عن قسم اللغة الفارسية، يهتمّ بتدريس الأدب العربي في جميع مراحله إلى جانب علوم العربية الأخرى كالنحو والصرف والعروض، كما قدّم أبناؤه العديد من الترجمات العربية، إلا أن أهمّ ما يميّز السنوات الأخيرة هو عدم اقتصار الاهتمام بالثقافة العربية على الكتب التراثية فقط، لكنه يتناول الأدب العربي الحديث أيضاً".
في الوقت الذي يرى فيه أوغلو أن الصورة النمطية لدى الأتراك تجاه العرب في طور التغيير الآن، إلا أنه يلاحظ أن هناك صورة نمطية أيضاً لدى العرب عن التاريخ التركي، وخصوصاً حول المرحلة العثمانية، ويوضح: "درَج كثيرٌ من المثقفين العرب على وصف القرون العثمانية بـ"الانحطاط"، وأن العثمانيين هم سبب ما نحن فيه الآن من "تخلّف"، وهي رواية سائدة". وهذا ما يحاول إسحاق أوغلو وزملاؤه في قسم اللغة العربية تفنيده من خلال دراساتهم.
فقد قدّم أوغلو في هذا السياق أطروحته للماجستير بعنوان "الكتب التي ألفها العلماء العثمانيون في علم البلاغة" كما جاءت أطروحة نيل الدكتوراه بعنوان "الحركة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر"، بالإضافة إلى العديد من الدراسات حول الأدب العربي في العهد العثماني وعصر النهضة. وإلى جانب ترجمته للعديد من النصوص الأدبية التي يدّرسها لطلابه، قدّم أيضا بعض الكتب العربية إلى المكتبة التركية، مثل "الواسطة في معرفة أحوال مالطة" لأحمد فارس الشدياق و"الآباء والبنون" لميخائيل نعيمة، بالإضافة إلى أنطولوجيا القصة السورية.
حول الترجمة الفكرية من العربية إلى التركية، يقول: "كلّ تيار في تركيا يترجم ما يراه مفيداً لأبنائه، وبما أن الاهتمام بالثقافة العربية في عهد ما قبل حزب "العدالة والتنمية" كان مقتصراً على الإسلاميين، وهو ما يمكن فهمه من ربط العربية بالإسلام لديهم، لذلك فقد شهِدت هذه المرحلة ترجمات لكتب التفسير والفقه وما إلى ذلك، كما اقتصرت ترجمة الكتب الفكرية العربية على ترجمة حسن البنا وسيد قطب والمودودي والقرضاوي".
إلا أنه يرى أن "الأجيال الجديدة من المترجمين الأتراك عن العربية لديها صورة أوسع عن الثقافة والفكر العربي، وأنها مطّلعة على المدارس الأدبية والتيارات الشعرية العربية في العصر الحديث، وحتى على المستوى الفكري، فهناك توجّه حالياً نحو ترجمة محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وغيرهما من المفكرين العرب".
يعتبر إسحاق أوغلو أن "قلّة المترجمين بين اللغتين، والترجمة من خلال الوسيط الأوروبي، هما من أبرز العقبات في التقارب بين الثقافتين. ويرى أن السبب الثاني تحديداً هو الذي يفسّر انتشار ترجمة روايات أمين معلوف الآن إلى التركية وأليف شفق إلى العربية. فلا يُعرف الكاتب التركي عند العرب إلا إذا مرّ على الوسيط الأوروبي، وهو ما يحدث أيضاً مع الكاتب العربي في تركيا. أو بحصول أحد الكاتبيْن التركي أو العربي على جائزة كبيرة مثل نوبل".
وبسؤاله عن ترجمات نجيب محفوظ التي نُقلت أغلبها من الإنكليزية إلى التركية، يوافق أوغلو على كونها "رديئة ولم تتمكّن من نقل روح محفوظ إلى القارئ التركي"، كما يرى أنه من الممكن أن يتعاون قسم اللغة العربية لاحقاً في ترجمة روايات محفوظ من جديد، مباشرة عن العربية.
في سياق الحديث حول الترجمة من التركية إلى العربية، يوضح أوغلو لـ "العربي الجديد": "أن هناك صورة نمطية أيضاً حول الأدب التركي لدى العرب، ويُرجع أسباب شهرة أسماء كُتّاب أتراك مثل الشاعر ناظم حكمت وعزيز نيسين ويشار كمال وغيرهم إلى الفترة التي تُرجمت فيها أعمالهم لأكثر من لغة عالمية بفضل المدّ اليساري آنذاك"، ومع اعترافه بأهمية هذه الأسماء في الأدب التركي إلا أنه يرى: "أن هذه الأسماء تمثّل الاتجاه اليساري فقط في الثقافة التركية، ولا تعطي صورة كاملة للمشهد الثقافي التركي، فهناك أسماء كبيرة أيضاً تمثّل الاتجاه المحافظ/ المتديّن، لم تحظ بنفس الاهتمام، وعلى رأسهم الشاعر نجيب فاضل، على سبيل المثال".
يعمل إسحاق أوغلو أيضاً على مشاريع خاصة خارج أسوار الأكاديميا، حيث يقوم بتعليم العربية والتعريف بثقافتها وآدابها في العديد من المراكز التركية الخاصة، كما شارك في تنظيم بعض المؤتمرات حول "تطوير تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها"، بالإضافة إلى مساهماته الثقافية المتعلّقة بالعلاقات التركية الأفريقية.
في هذا السياق يقول: "من المعروف أنه من ضمن سياسات الحزب التركي الحاكم، الاهتمام بالمشاريع التنموية في قارة أفريقيا، ونحن نعمل أيضاً على مدّ جذور التواصل الثقافي مع القارة السمراء المجهولة بالنسبة إلى كثير من الأتراك. كما أننا بدأنا في ترجمة بعض الأعمال الأدبية لكتّاب من شمال أفريقيا، الذين كنّا لا نعرف عنهم شيئاً قبل ذلك".
وبالعودة إلى الحديث حول مستقبل الترجمة بين الثقافتين العربية والتركية، يتوقّع أوغلو "أن السنوات المقبلة سوف تشهد حركة ترجمة قوية بين اللغتين في ظلّ وجود حوالي أربعة ملايين عربي في تركيا، إلى جانب اهتمام قطاع كبير من الأتراك باللغة العربية والترجمة منها وإليها، وهو ما من شأنه أن يساعد في إذابة الجليد بين الثقافتين".