الجمال كأمر زاجر

11 يوليو 2017
من مجموعة "سيانوتيب" لـ كرستيان ماركلاي
+ الخط -

إنه ضربٌ من الجنون أن نرى كم أن العالم جميل.

جميلة هي تلك المنتجات التي توضع في صناديق. والملابس التي جرى التفنّن في تصميمها وفي تصميم شعارات الشركات المنتجة لها. وتلك الأجساد الرياضية، التي جرى "بناؤها" أو تشبيبها عبر الجراحة. وتلك الوجوه التي تزيّنها المساحيق، وأخرى تجد عليها أوشاماً ومواد زينة مغروسة فيها.

جميل أيضاً هذا الوسط الذي نتحرّك فيه، لقد جرت المحافظة عليه، وجرت تهيئته مثل أثاث البيت. في حقيقة الأمر، كل الحياة مؤثثة بإبداعات التصميم. لذلك فحتى المعدّات العسكرية جميلة، بل يبدو بعضها قابلاً للتصنيف الفنّي ضمن المدرسة التكعيبية أو المستقبلية. لا بل أكثر، حتى الجثث باتت جميلة، إذ ها هي توضع بعناية ونظافة في أكياس بلاستيكية وقد رتّبت قبل أن توضع في سيارات نقل الجثامين؛ وبالتالي فإنها جميلة هي الأخرى.

لو لم تكن هذه الأشياء جميلة، فإن عليها أن تكون كذلك. الجمال يهيمن، وقد تحوّل إلى أمر زاجر يسري على الجميع: كن جميلاً، أو على الأقل أعفِنا من قبحك.

طبعاً، أنا أبالغ. الجمال الذي أتحدّث عنه يأتي من نظَراتنا، وهذه الأوامر الزجرية تصدر عن أفكارنا. وخارج هذا وذاك، فإننا حين ننزع قليلاً هذه الترتيبات الجمالية حولنا سنجد أمامنا محيطاً من القبح والرعب والتفاهة. يكفي أن نغيّر نظّاراتنا كي تنقلب صورة نفس العالم من الجميل إلى القبيح، أو ربما نجده لا جميلاً ولا قبيحاً.

لكننا في الواقع، نحمل اليوم جميعنا نظّارات تصنع الجمال، مثبّتتةٌ فوق أنوفنا كما ثبّتت في رؤوسنا أفكار حول معايير الجميل. وفي المحصّلة، نحن أحياء القرن الحادي والعشرين، نعيش زمن انتصار الجمال وعبادته.

يصعب، أو يستحيل، أن نفرّ من إمبراطورية الجمال هذه. حتى النظرة الأخلاقية تأثّرت بذلك، فصارت السلوكات تطلب أن تكون جميلة، وأصبحت الأخلاق عملية تجميل للسلوكات.

المفارقة التي تشغلني هي أنه في هذا الوضع الذي يهيمن فيه الجمال، وينتشر ويجري استهلاكه والاحتفاء به في كل العالم، كيف سيكون معه حال العمل الفني، ذلك الذي طالما اعتبر مسكن التجربة الجمالية؟ يبدو الفن وقد تبخّر اليوم مثل أثير جمالي، يأخذ حالاً غازياً ينتشر ويلوّن كل ما يصادفه أمامه. لكن التبخّر قد يعني أيضاً اختفاء الفن ليترك المكان لعالم ينتشر فيه الجمال في كل مكان، ومن أجل الإبقاء على الفن جرى استبداله بـ "الإنتاج الجمالي"، حيث أن أشياء لا تعدّ ولا تحصى باتت فضاء للتجربة الفنية.

* من مقدمة كتاب "الفن في حاله الغازي" الصادر عام 2003.
** ترجمة عن الفرنسية: شوقي بن حسن

المساهمون