ستيف سابيلا.. طبقات المنفى والمنفى

08 أكتوبر 2014
+ الخط -

"قبل الحديث عن مفهوم المنفى في أعمالي، فلنحاول أن نجد تعريفاً وافياً للوطن. شخصياً لا ترسم الحدود الجغرافية وطني، كما أن المكان لا يقيّد انتمائي. وطني موجود في مخيلتي؛ هناك لن يسلبني إياه احتلال؛ هناك أحتفظ بما تبقى منه".

ذلك كان أول تعليق للفنان الفلسطيني ستيف سابيلا على هامش معرضه "طبقات" الذي تستضيفه قاعة "كاب" للفنون المعاصرة في الكويت، حتى 21 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.

تعليق لا بد من التأمل فيه، للوقوف على مفهوم الوطن في الفكر الفني المعاصر الذي تمثّله أعمال سابيلا (1975) وغيره من فلسطينيي الشتات الذين غادروا بلدهم حاملين معهم أحلاماً وتأملات حوله لا يمكن للرصاص والدم أن يشوّهاها.

لقد هرب هؤلاء بالوطن/الحلم إلى منافٍ اضطرارية أو اختيارية، في محاولة لصون ذاكرة حبلى بالمواقف الإنسانية والكثير من أسباب الرحيل الاضطراري المضمّخ بالأمل بحياة أفضل حيناً، وبالرغبة الملحة في الشفاء من قضية أفقدها اختلال موازين القوى عدالتها.

غادر سابيلا القدس، مسقط رأسه، عام 2007، إلى لندن، التي سيغادرها ليستقر في برلين. لكن القدس بقيت حاضرة في عينيه، وفي صراعه الداخلي المستمر ضد احتلال طالما آلم المراهق الذي كان، ليكتشف بعدها أنه غادر القدس لكنها لم تغادره.

"مخرج" (2006)، من بين الأعمال الفوتوغرافية التي يضمّها معرضه الحالي. تضعنا الصورة في مواجهة مع موضوع المرض والموت. اختار الفنان مستشفى إيرلندياً ليصوّر فيه أيادي أشخاص طاعنين في السن، مستخدماً خلفية سوداء وإضاءة ساطعة تبرزان شرايين هذه الأيدي التي تبدو كمنعطفات طرق أو تضاريس من وهن خطّتها التجارب والأزمات النفسية.

ولكل يد تشعّباتها ودلالتها الاجتماعية؛ فمنها ما هو مزيّن بخاتم زواج لم تنزعه صاحبته من يدها، رغم الألم وتغيّر ملامح اليد عبر الزمن. وبالتالي، يشكّل "مخرج"، بالنسبة إلى الفنان، أرضية لطرح أسئلة وجودية تتعلّق بمحدودية الجسد وحتمية فنائه.

يقول الفنان والناقد الفلسطيني كمال بلاطة في مقدمة كتاب "سابيلا" الصادر عن "هاتشي كانتز" و"أكاديمية الفنون" في برلين، بالتزامن مع المعرض الحالي: "استخدم ستيف سابيلا كاميرته في العقد الأخير كرسام يستخدم فرشاته". يتجلى ذلك بقوة في "تحولات" (2012)، حيث يركّب الفنان عوالمه من خلال انتقاء أو قص مقطع من صورة وإعادة لصقه ضمن توليفات معقَدة.

في أحد هذه الأعمال، تطالعنا طبقات من شبابيك مفتوحة، تطل من كل منها نبتة صبار (هذه النبتة التي يكثر وجودها في الريف الفلسطيني، وسكنت أعمال كثير من الفنانين الفلسطينيين)؛ في إشارة إلى المدلولات الحسّية لهذه النبتة المرتبطة بالأرض.

في هذا العمل، عمد سابيلا إلى أنسنة الصبار الذي نراه في عدد من الصور شاخصاً من شباك، حاله حال كل من اقتلعوا من أرضهم عنوة، ضمن مشهدية نخالها للوهلة الأولى واقعة في التكرار، لكنها سرعان ما تكشف عن مساحات هندسية مختلفة تعمّد سابيلا تقسيمها. كأنه يريدنا أن نقولب ذاكرتنا لتتكشف لدينا في ما وراء عمومية المشهد الواحد؛ فالألم واحد والتهجير واحد، أما القضية فلها أكثر من وجه وأكثر من حكاية.

في مجموعته الأحدث "ثمانية وثلاثون يوماً من إعادة التجميع" (2014)، ننتقل مع الفنان إلى منازل القدس العتيقة، وتحديداً إلى بيت سلبه الاحتلال عام 1948 في قرية عين كارم الفلسطينية، استأجره الفنان لمدة ثمانية وثلاثين يوماً.

عكف الفنان، خلالها هذه الفترة، على الإنصات بعناية إلى أحاديث الجدران ورصد تحولاتها عبر الزمن، جامعاً إياها على شكل تصاوير جصية (فريسكو) حملت الكثير من حميمية الأغراض المنزلية والصور العائلية، في دلالة إلى أن للهياكل في صمتها قصة لا يفهمها سوى من وُلد فيها. وقدّم سابيلا هذه التصاوير في قوالب حافظة، حتى لتبدو للناظر إليها كأنها مخطوطات أثرية يُخشى عليها الفقد أو التلف.

وتعكس الدقة اللامتناهية في صناعة أعمال هذه المجموعة، من ناحية تجميع قشور الجدران ونقلها من القدس وتحميضها تمهيداً لطباعتها في هيئتها النهائية، مع تطويع الصور حسب لون كل قشرة من كل جدار؛ حِرَفية سابيلا وخروجه عن المألوف في فن طباعة الصورة الفوتوغرافية، باستخدام مواد عضوية هشّة.

أما مجموعة "استقلال" (2013)، وهو عمل تجهيزي لصور سابيلا التي تتمركز على شاشات معلقة في غرفة مظلمة، فتشكّل ذلك العالم المثالي الذي يهرب إليه الفنان بكامل وعيه ولا وعيه، في إشارة رمزية منه إلى أن أرض المنفى يجب أن تكون هي نفسها أرض السلام، حيث يتحرّر الجسم البشري من قيود المكان والوقت، ليطفو على سطح اللاوجود دونما أدنى تشنّج أو انقباض.

هكذا، يؤسس سابيلا لأرض عائمة لم يهتك طهر تربتها وقع أقدام الغزاة، من خلال استخدام حيادية الـ"نيغاتيف"، بعيداً عن صخب الألوان. وضمن هذا التجهيز، نشاهد مقاطع فيلمية لجسدين طافيين في أثير قاتم هو أشبه برحم الأم المعتم والممتلىء أماناً.

درس سابيلا التصوير والفنون البصرية في القدس ونيويورك ولندن. وتضم متاحف ومراكز فنية عالمية، مثل "المتحف البريطاني"، عدداً من مجموعاته. بعد محطته في الكويت، يستعدّ حالياً لمعرض استعادي كبير في مدينة فيرونا الإيطالية، يضم خلاصة نتاجه الفني.

المساهمون