منذ عنوانه، "ثورة مصر"، يدخل الإصدار الجديد للمفكر العربي عزمي بشارة إلى دائرة الجدل، فاستعمال مفردة "ثورة" لها دلالاتها وسياقاتها، بداية بما خصّصه لها من تأصيل نظري في كتاب سابق له بعنون "في الثورة والقابلية للثورة" كانت فيه مصر النموذج الأكثر حضوراً، خصوصاً في الجزء المضاف للطبعة الثانية؛ وصولاً إلى ما باتت تحتمله المفردة من إشكاليات تتعلق برفض البعض توصيف ما حدث في تونس ومصر وسورية واليمن وليبيا بالثورة أو مزاوجتهم بين القبول والرفض. من هنا يبدو اختيار العنوان مثل حسمٍ في رؤية مشهد "الربيع العربي".
سياق آخر ينتمي له العمل، إذ يأتي كتاب "ثورة مصر" بعد عملي "الثورة التونسية المجيدة" و"سورية: درب الآلام نحو الحرية". يحتفظ بشارة في عمله الجديد بنفس البنية والمنهجية التي تعتمد على التوثيق لمسار الثورة مع الإحالة لخلفيات تاريخية موسّعة تقدّم للقارئ رؤية لميكانيزمات التحوّل الذي يحدث، ومن ثم الاشتباك مع إشكاليات الواقع السياسي العربي وتقديم مقولات حوله.
الكتاب صدر مؤخراً في جزأين عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يعود في الأول إلى ما سمّي بـ ثورة 1952 وصولاً إلى يوم تنحّي حسني مبارك، وهو سليل النظام الذي انبنى على "شرعية" تلك "الثورة"، وكأن هذا الجزء الأول مقدمة للسنتين التاليتين اللتين يتناولهما الجزء الثاني الذي حمل عنوان "من الثورة إلى الانقلاب".
التصدي لكتابة تاريخ سياسي في طور التشكّل جعل العمل يتفرّع في سياقات متنوّعة، إذ تعترضنا تواريخ متعددة من تاريخ المؤسسات (الجيش، الرئاسة...) والمفاهيم (الديمقراطية، الإسلام السياسي...) وتقاطعات مع سير شخصيات وآليات تغيٍّر اجتماعي وثقافي ومؤثرات أخرى مثل الإعلام والسياق العالمي.
عنصر آخر يدعم هذا التفرّع والتشعّب في سرد التاريخ المصري الحديث هو اعتماد العمل على شهادات وتحليلات ضمن عملية تركيبية واعتماد مقاربات من مجالات معرفية متعددة، مثل العلوم السياسية والاقتصاد وعلم الاجتماع وتحليل الخطاب أمدّت العمل بطبقات متنوّعة.
في مقدمة الكتاب، ينبّه المؤلف إلى صعوبة "كتابة مقدمة تاريخية للثورة المصرية"، مشيراً هنا إلى أن إحدى صعوبات ذلك هي تكمن في أن "التاريخ المصري غير مجهول" ما يعني أن تقديم سردية جديدة عنه هو تحدٍّ مضاعف.
غير أن متابع ما كُتب عن التاريخ المصري الحديث يقع على توجّهين أساسيّين، إما بالاعتماد على النظر الخارجي أُحاديّ الاختصاص، أو تقديم زاوية نظر داخلية غالباً ما تُسقط أثر المشهد العام التاريخي والدولي، وهو ما عمل الكتاب على مستوى منهجياته أن يتفاداه.
يتجه بشارة في "ثورة مصر" إلى مناقشة إشكاليات التحوّل الديمقراطي مُظهراً الأسباب البنيوية لتعثّره من جهة، ومقدّماً محاولات في الإسهام في "نظرية للتحوّل الديمقراطي" من أخرى.
لعل الإضاءات التاريخية التي يضمّها الجزء الأول أتاحت أرضيات تفسيرية صلبة حين تصدّى بشارة في الجزء الثاني لهذا الإشكال، كما نتبيّن ذلك من فصل بعنوان "موجز تاريخ الاحتجاجات في مصر الحديثة"، ما يتيح أن نرى ما يحدث اليوم كعملية تراكم صدامي بين "تاريخ الاحتجاج" وتاريخ مواز هو "تاريخ الاستبداد".
يبدو كتاب "ثورة مصر" محاولة في تاريخ الراهن. راهنٌ مصري كثيراً ما تعترضنا أحداثه الداخلية بمشاهد متنوّعة يبدو من الصعب التقاطها ووضعها ضمن رؤية عامة.
لعل وضع سردية للتاريخ الذي ينتج كل هذه الأحداث يتيح فهماً أعمق للمسارات التي تتخذها، وبالتالي يفتح مساحات للتغيير، ذلك الأمل الذي ضُرب ما إن أطل برأسه منذ سنوات قليلة.