ورد في "الأغاني" للأصفهاني قول الخليل الفراهيدي: "دفنّا الشعرَ واللغة والفصاحة [...] حين انصرفتُ من جنازة رؤبة"، ويُمكن فهم حُكمِ الخليل بالعودة إلى يونس، الذي قال لما "سُئل: من أشعر الناس؟ قال: العجاج ورؤبة [...] هما أشعر مِنْ أهل القصيد، إنما الشعر كلام، فأجوده أشعره".
ولا يخفى أنّ العَرب اعتادوا امتداح شعرهم بنعوت مثل: هذا الأَفصح، وهذا الأَرَقّ، وذاك الأهجى، إلخ. وأنهم وسَّعوا الحُكْم ليشمل الفنون والعلوم والأخلاق، مما يَنمّ عن رؤية وجودية وذوق جمالي وموقف أخلاقي، لكنه يُعلن عن اقتناعٍ بالتوقف عند ما يُفتَرَض، أيضاً، أنه نموذج في القول والعمل، يُجسّد مِثالاً في الكمال، لا سبيل إلى تجاوزه، باعتباره جامعاً مانعاً، وأنْ ليس في الإمكان أفضل مما كان.
ولا شكّ في أن هذا الموقف يُضمر رؤيَةً غير عِلمية لعمل البشر، ولقدراتهم اللانهائية على الإبداعِ استناداً إلى تراكم خِبراتهم وسعة خيالهم، فهو يُصادِرُ حقَّ اللاحق في الاجتهادِ، وفي الاستدراك على السابق، والارتقاءِ بعمله، لأنه يَصْدر عن تبجيل الأسلاف، ويرى الكمال في الماضي، ويُجهض القدرة على الإضافة ومواصلة البناء.
جليٌّ أنّ المُبدِعين القدماء لم يدَّعوا كمالَ أعمالِهم، وأنّ تلك الأحكام صدرتْ إمّا عن مُعاصِريهم أو من جاءَ بعدَهم، لذلك وجدنا ردوداً قويَّة على أولئك المدَّعين المبالغين، مِن قِبَل المُبدِعين، الذين لم يُذعنوا لهذا الحُكْم النقديّ، بل نددوا بإجحافه في حقهم، كلٌّ بأسلوبه؛ فالمتنبي مثلاً قال:
"لا بقومي شرفتُ بل شَرُفُوا بي/ وبنفسي فخرتُ لا بجدودي"
وأفاد أبو العلاء المَعري الشيءَ نفسَه بقوله:
"وإني وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُه/ لآتٍ بما لم تسْتَطعْه الأوائلُ"
تلك حال الأدب، الذي نَعْلَم عن الارتباط الوثيق لقضاياه بالترجمة، التي بخصوصها، يحق لنا أن نتساءل إنْ كان للموقف النقدي للقُدماء صدى فيها، يجعل نُقّادها وممارِسيها وحتى قُرّاءها يعتقدون في وجود ترجمة نهائية لبعض النصوص، تكون كافية شافية، وتغني عن الاستمرار في إنتاج ترجمات كثيرة للعمل الواحد.
تؤكّدُ الترجمات سَعْيَ بعضِها إلى أن يقومَ مكان بَعْضِها الآخر، وتكفي بعضُ الأمثلة لتأكيد ذلك، فرواية ثربانتيس "دون كيخوته" تعاقب عليها أكثر من خمسة مترجمين في العالم العربي، وحدث الأمر نفسُه مع "ألف ليلة وليلة"، التي ترجمها العديدُ من الأوروبيين، الذين خَصَّهم خ .ل. بورخيس بنصٍّ قصصيّ طريف، بل من المترجمين من يُعيد إصدار طبعة مزيدة ومنقَّحة، أو يُعيد الترجمة برمَّتها عندما يتبيَّن بعض الخلل فيها أو إمكان تحسينها، وتلك حال غاياتْري سبيفاك مع كتاب جاك دريدا الغراماتولوجي، الذي ترجمتُه في 1974، وبعد صدور أربعين طبعةً لترجمتها، عادتْ إلى ترجمته مجدَّداً في 2016.
يعني هذا أن الترجمة ليست عمَلاً آليّاً؛ وإلا لكان كلُّ المترجمين في اللسان الواحد يُعيدون إنتاج نص واحد موحَّد، اللهم إلا ما كان من أمر تلك الترجمة الخرافيّة الشهيرة بالسبعينية أو السبعونية.
تمثل الترجمة في أساسها تعامُلاً مع علاماتٍ لا يفتأ تأويلُها يتجدّد وَفْق تجدُّد المعرفة وتراكم الخبرة وتغيُّر الوعي والنوازع، فوفق دولوز: "لا موضوع يكون لكتاب ولا ذات، فهو يُصاغ من مواد تؤلَّف بشكل متنوِّع، مِنْ تَواريخَ وسرعات مختلفة جداً" وكلٌّ يَقرأ ويؤوّل بحسب قدراته.
يتَّسم النصُّ المُبْدَع بأحادية علاماته التي يُصاغُ بها، في مقابل التعدُّدية التي تطبعُ القراءة، التي يُستقبَل بها، وخاصةً من قِبل المترجِمين الذين يُرحِّلونه للإقامة في غير لغته وثقافته، لأنهم يتعاملون مع اللغة بصفتها طاقة تصويرية لا نهائية، مُثقَلةً بالمجاز والثقافة اللذيْن يُشرِعانها على التّأويل اللانهائي، واللذيْن يؤكّدان قول دولوز بأن الكتاب "متعدِّدٌ"، لذلك يستحيل على المؤلِّف أن يتوقَّع ما يُمكن أن يُثير عملُه من نقاش وقضايا، وهو يُقيم في لسان آخر.
لذلك، ضروريٌّ أنْ يعي القارئ أنه حينما يقرأ ترجمة، فهو يقف على قراءة ضمن قراءات عديدة للكتاب، وهذا يعني أن الترجمة لا نهائية، لأنّ وُجودَ المترجِم الأخير يعني اغتيالَ الكتاب.