يوافق الثالث من آذار/ مارس ذكرى رحيل صلاح الدين الأيوبي في دمشق عام 1193. كان بطلُ حروب الاستعادة الإسلامية من الصليبيّين سياسياً محنَّكاً واستراتيجياً بارعاً، بالإضافة إلى كونه فارساً من الطراز الأول. وقد سُفح في مدحه، وفي ذمّه أيضاً، الكثير من الحبر بلغات شتّى، منذ عهده إلى اليوم، وتنازعت على تراثه قوميات ومذاهب مختلفة.
ولكنّنا مع ذلك، وعلى الرغم من السيَر التي كتبها عددٌ من متملّقيه، ومعظمهم كان موظَّفاً عنده، لا نملك الكثير من الوثائق التي تعود إلى عهده، ويمكن أن تنير لنا قليلاً طريقةَ تفكيره السياسية التي ظهرت آثارها في انتصاراته الباهرة على أعدائه الداخليّين وعلى الصليبيّين، وفي نجاحه في تأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف امتدّت من وسط الأناضول إلى مصر والحجاز واليمن، مروراً طبعاً بسورية الداخلية وجزء كبير من فلسطين.
لذلك تكتسب النصوص التذكارية المحفورة على عدد من مبانيه أهمية استثنائيةً؛ إذ إنّها تمنحنا الفرصة، من خلال تحليلها، لتكوين فكرة عن سياساته وتخيُّله لمُلكه ولدوره في تثبيت أركانه.
واحد من أهمّ هذه النقوش، ومن أبكرها أيضاً، النقشُ المثبَّت أعلى مدخل المدرج في قلعة القاهرة التي أنشأها صلاح الدين نفسه. وهو من ضمن الوثائق النادرة المعاصرة للمبنى الأصلي؛ (مؤرَّخ في سنة 579 هجرية/ 1183 - 1184 ميلادية)، نصُّه مكوّنٌ من تسعة أسطر من خطّ النسخ الأيوبي البسيط، يُسجّل أسماء "صلاح الدين"، وأخاه "العادل"، و"قراقوش" القائم على أمر القلعة، ويُقدّم كثيراً من التفسيرات للرسالة التي أُريد للقلعة أن تحملها ووظيفتها المقصودة:
"بسم الله الرحمن الرحيم (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله
ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويُتمّ نعمته عليك ويهديك صراطاً
مستقيماً وينصرك الله نصراً عزيزاً) أمر بإنشاء هذه القلعة الباهرة
لمحروسة القاهرة بالعرمة التي جمعت نفعاً وحسناً وتحسيناً وسعة على
من التجئ إلى ظلّ ملكه وتحصيناً، مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا
والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين في نظر أخيه
ووليّ عهده الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد خليل أمير المؤمنين
علي يد أمين مملكته ومعين دولته قراقوش بن عبد الله الملكي الناصري
في سنة تسع وسبعين وخمس ماية".
هذه الوثيقة الاستثنائية ترسم لنا صورة الحاكم الصاعد صلاح الدين الذي كان ينشد أن يؤطّر ملكه إسلامياً من خلال الآيات القرآنية؛ فالآيات الثلاث الأولى من سورة الفتح المستخدَمة هنا تستعيد، طبقاً للتقاليد الإسلامية، صورة نجاح الرسول بفتح مكة عام 630م؛ هذا الفتح الذي ضمن له السيطرة على كل أنحاء غرب الجزيرة العربية.
وقد استخدم هذه الآيات نفسها عددٌ كبير من الفاتحين المسلمين الذين نقشوها على الأوابد التي أقاموها لتخليد انتصاراتهم. وهي على هذا الأساس ربما تُلمّح إلى نجاح صلاح الدين بعد عامين من الحملات العسكرية المضنية (1183 - 1184)، في أن يُصبح الحاكم الوحيد لسورية، أو ربما بالإمكان رؤية هذه الآيات على مدخل قلعة القاهرة كإشارة إلى هيمنته على مصر بعد صعوده المثير، من ضابط صغير في جيش نور الدين السوري الذي قاده عمّه شيركوه، إلى سلطان.
الآيات الخمس الأولى من سورة الفتح منقوشة أيضاً على جدار القبلة في مشهد الجيوشي (المشيَّد عام 1085)، القائم عالياً فوق جبل المقطم خلف الهضبة التي أُقيمت عليها القلعة، مطلّاً على المدينة وضواحيها. هذا المبنى الغامض الذي بناه بدر الجمالي، قائد الجيوش الفاطمية (أمير الجيوش)، بعدما أحكم سيطرته على مصر بأكملها وأصبح وزير الخليفة الفاطمي المستنصر ومدبّر مملكته إثر سنوات الشدّة المستنصرية (1064 - 1071)، التي كادت أن تودي بالخلافة نفسها. ولعل بدر الجمالي قد بنى مشهده كتخليد لانتصاره في مصر واعتلائه أرفع المناصب بعد قدومه من سورية، وزوّده بالشواهد القرآنية التي تدعم هذا التفسير.
سيرة صلاح الدين في مصر تعكس شبهاً غريباً بسيرة بدر الجمالي؛ فهو أيضاً قدم من سورية مع جيش أتى استجابةً لخليفة خائر العزم، وهو أيضاً اخترق الأسرة الحاكمة الفاطمية ووصل إلى القمّة، وهو أيضاً استعان بأتباعه، وغالبيتهم من الأكراد، بالمقارنة مع أتباع بدر الأرمن، وأسّس من خلالهم قاعدته بتعيينهم في مناصب هامّة في الجيش والإدارة، وهو أيضاً واجه مقاومة عنيفة من أتباع الدولة الفاطمية المخلصين ونجح بعد جهد جهيد في أن يخضعهم.
لكن الظروف التاريخية المواتية سمحت لصلاح الدين بالقضاء على الخلافة الفاطمية واستلام السلطة، بينما كان بدر الجمالي ما زال محتاجاً إلى غطاء الفاطميّين الشرعي. وعليه، فربما كانت آيات سورة الفتح رمزاً لاعتلاء صلاح الدين للسلطة في مقارنة مقصودة مع سابقه بدر الجمالي الفاتح العسكري الذي أنقذ مصر من محنتها وصعد إلى سدّة حكمها.
يمكننا أن نلاحظ تطلُّع صلاح الدين للتفوُّق في الألقاب التي نسبها إلى نفسه، أو تلك التي منحها لأخيه ونائبه. يلفت الانتباه بشكل خاص اللقب المهم (محيي دولة أمير المؤمنين) الذي يُشير إلى الخليفة العبّاسي الناصر في بغداد الذي أحيا صلاحُ الدين دولته في مصر بعد قضائه على الخلافة الفاطمية إثر وفاة آخر خلفائها، العاضد، عام 1171. هذا اللقب، الذي يَظهر كثيراً في نقوش صلاح الدين في ما بعد، ليس فخرياً فحسب، وإنما هو دلالة على الشرعية التي استمدّها صلاح الدين من إحيائه الخلافة العباسية السنية ودعمه دولتها، وما منح أخ صلاح الدين، الملك العادل، لقب "خليل أمير المؤمنين" إلّا إتماماً للقب صلاح الدين نفسه، وتأكيداً على دور العائلة ككل في دعم الخلافة العبّاسية في استخلاص الشرعية من هذا الدعم.
ولكن لقب "مُحيي دولة أمير المؤمنين" ليس عادياً؛ فهو لا سابقة له في الألقاب الفخرية التي كان الخلفاء العبّاسيون يمنحونها لسلاطين السلاجقة؛ مثل "يمين الدولة" و"قسيم الدولة". تلك الألقاب كانت توحي بمشاركة ما في الحكم بين الخليفة والسلطان، بينما لا يدل لقب "مُحيي الدولة" على أي مشاركة في السلطة، وهو إن دلَّ على شيء فهو يؤكّد أن الخليفة الناصر لدين الله مدينٌ لصلاح الدين باسترجاع مصر إلى الخلافة العباسية، الذي يؤكّد من خلاله علناً استقلاله باسم السلطنة الأيوبية من دون أيّ تبعية لخليفة بغداد.
وعلى هذا، ربما يكون اللقب قد أُعلن من طرف واحد من دون تفويض من الناصر لدين الله، بل ربما كان عملاً من أعمال الاستقلال والسيادة، أو حتى نوعاً من أنواع المناهضة لسلطة الخليفة العبّاسي السياسية. وقد يكون استخدامه طريقة لتذكير الخليفة الناصر، المشهور بفطنته وذكائه، بالخدمات التي أدّاها صلاح الدين للخلافة العباسية، وخاصّةً أنَّ الخليفة كان متردّداً في إمداد صلاح الدين بما كان يحتاجه مادياً ومعنوياً في محاولاته الشاقّة لتأسيس إمبراطورية إسلامية عظيمة، وهو طبعاً مُحقّ في ذلك.
يعطينا النقش أيضاً أسباب بناء القلعة التي "جمعت نفعاً وتحسيناً وسعة على من التجئ إلى ظلّ ملكه… وتحصيناً". هذا الإعلان يلخّص برشاقة أهداف القلعة الوظيفية، ويعيد التأكيد على استقلالية صلاح الدين بالإشارة إلى "مُلكه". وهو في ذلك ينتمي إلى قلّة قليلة من النقوش الإسلامية التي نادراً ما عرّفت بالصرح نفسه أو وصفت الأغراض التي بُني من أجلها. وهو على ذلك يعكس أهمية القلعة بالنسبة إلى صلاح الدين، لدرجة أنه تجاوز النصب التذكاري التقليدي لكي يعبّر عن تلك الأهمية.
يعيد السجع في النص إلى الأذهان الأسلوب الذي أتقنه كاتب رسائل صلاح الدين ورئيس ديوانه الخاص في مصر، القاضي الفاضل، الذي ربما كان هو نفسُه محرّر نص النقش؛ فهو كان يتصرّف كمتحدّث رسمي باسم صلاح الدين، ينشر أفكاره ووجهات نظره ويعلن انتصاراته العسكرية الباهرة، وهو أيضاً قد خلّف مجموعة وافرة من الرسائل، سواء الشخصية أو الرسمية، التي تبيّن تشابه أسلوبها مع نص القلعة، في حين أنَّ المشرف على بناء القلعة، بهاء الدين قراقوش (الذي دخل اللغة الشعبية بأحكامه القراقوشية)، قد شُهد بجهله باللغة العربية.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا