كانت كلمة "السياسية" في العقود الأخيرة من القرن العشرين تعني بالنسبة لقطاع عريض من العرب، وصفاً للتدخل الثوري المناهض للأنظمة الحاكمة في مجمل العالم العربي. أي كان لهذه الكلمة التي تصف اسماً يسبقها، سمعة طيبة. فالأغنية كانت قد استثمرت في السياسة، وكان الشباب يندفعون بحماسة لسماع المغنّين الذين أطلقت عليهم هذه التسمية في الشارع العربي، وقد استعانت هذه الأغنية بالشعر العربي الحديث، حين استعار أبرز ممثليها من محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما كلمات أغانيهم.
تلاشت الأغنية السياسية اليوم ولم يبق منها غير تاريخها، بينما تكسّرت شعبية معظم الذين اشتهروا بتقديمها في العقود الماضية، ولم يعد أي مغن من بينهم يقدّم ألبومات تتضمن أغنياته السياسية، ومن الصعب أن يقيم أي حفلة ذات حمولة جماهيرية شبيهة بما كان يحدث في الماضي، وثمة من يُحمّل المغنين جزءاً من المسؤولية عن تردي وضع الأغنية السياسية بسبب مواقف بعض المغنين المؤيدة للأنظمة في وجه الثورات.
بينما ظلّت أخوات الأغنية كالرواية السياسية والمسرح والشعر السياسي على حالها في وضع الاستثمار، بل إن الرواية العربية تكاد تَعتبر التدخل في الشأن السياسي أولوية لديها. ومن النادر أن تعثر اليوم على مقالة أو دراسة أو بحث نقدي يتحدث عن الجوانب الجميلة في هذه الرواية أو تلك، بل ينصبّ اهتمام الجميع على خطابها الفكري والسياسي، فالرواية تُرغم على الانخراط في المعارك الفكرية من خلال التقييم الذي يضع تراتب الروايات بحسب قدرتها على رصد التحولات المجتمعية والسياسية. وقد حازت الرواية السياسية على الشهرة، وراجت في سوق القراءة، أكثر بكثير من تلك التي خاضت في مسائل الحب والضمير والنزاعات الاجتماعية.
ولكن على بطل الرواية السياسية أن يتحرك فنياً في إطار القضية السياسية، وهو ما يضع الروائي في خضم مغامرتين: الأولى فنية تتطلب الجودة كي ينعم عمله باسم الرواية، والثانية سياسية يرسل من خلالها رسائله إلى الجمهور مرة وإلى النظام الحاكم مرة أخرى. ولعل تقييد العرض السياسي بالتحرّك الفني أمر ضروري تكاد تتجاهله معظم عروض الروايات الشائعة اليوم في الصحافة العربية، حيث يمكن أن تتساوى من حيث القيمة معظم الروايات التي يشار إليها على أنها تهتم بالسياسة في موضوعها.
ويعزو مؤرّخو الأفكار ظهور السياسة في الرواية إلى أحوال القمع التي كانت تمنع المفكرين والمنشغلين بشؤون السياسة من العمل الحر في الشأن العام، خذ روسيا القيصرية مثلاً. ولكن من الصعب القبول بهذا الرأي وحده لانتساب الرواية العربية أو غيرها إلى حقل السياسة، إذ إن غاياتها تجاوزت ذلك إلى الرغبة في التعبير عن الحلم بالحرية ومناهضة القمع.
الطريف أن يكون المصطلح النقدي الذي يسمي ظاهرة الاستثمار بالشأن السياسي أي "السياسية" قد انحسر وغاب عن التداول. ففيما ظلت الأغنية والرواية تحافظان على سمعتهما في حياة البشر، تلوثت كلمة السياسة وانحط معناها في الوجدان الشعبي العام الذي بات الناس فيه يربطون بينها وبين انعدام الضمير، أو بينها وبين المصلحة المجرّدة من الأخلاق.