بلغ التفاخُر بالتمدُّن أوائل القرن الماضي، وكانت بلاد الشام تحت الحكم العثماني، أنَّ ما تلبسه النساء الباريسيات اليوم، تلبس مثله نساء بيروت غداً. أي أن الموضة لا تحتاج إلى أكثر من يوم واحد لتقطع البحر وتصل إلى البلاد، وفي هذا دليل على مواكبة الحضارة على الضفّة المقابلة خطوةً بخطوة. وكانت الأزياء النسائية الأكثر لفتاً للأفئدة والأنظار، بإجماع النساء والرجال المتعلّمين والمتغرّبين، تدلّ إلى ذوق راقٍ، وذائقة على صلة بالتقدُّم، تترفّع على المألوف والعادي، العامي والمبتذل.
في وقت مبكر من اختراع الموضة في منتصف القرن التاسع عشر، قال الإنكليزي تشارلز وورث الذي كان له أكبر تأثير على الموضة الفرنسية عن نفسه: "أتمتّع بحاسة تذوُّق الألوان مثل ديلاكروا، كما أنني قادر على تكوينها". كان صاحبَ القفزة التي ربط فيها الموضة بالفن الذي انفتح على صناعة الأزياء، مبشّراً بانسجامها مع روح العصر الجديد.
غير أن العصر بعد فترة قصيرة، لم يعُد بالنسبة إلى المصمّمين يُقاس بتجاوز الزمن الفيكتوري المتزمّت، ولا بعقد من السنين، أصبح الزمن يتدفّق بالعصر تلو العصر، لا يأخذ تواليه غير بضعة أشهر، يجاري موضة تنتشر عن طريق الشيء وضدّه، الفعل ورد الفعل في عالم الأزياء المتجدّد. فجرى الاعتراض على المشدّات التي تقيّد حركة الجسم، بدعوى أن "السيدات رفضن المحاولات الكريهة لإخفاء علامات البدانة أو النحافة التي يعانين منها". كانت ردّة الفعل، على الأزياء السائدة، بما هو على تضادّ معها: ستُظهر المرأة بنسبها الطبيعية التي تتمتّع بها، لن تخفيها، بل ستتصرّف بكل حرية، ما استدعى الموضة المعاكسة، وكانت في تحديد مقاييس وبروزات مثالية لجسد المرأة، لا تخضع لقوالب مسبقة، على النسوة التقيُّد بها.
لعب التعارض والمنافسة بين هذين الاتجاهين الدور الرئيسي في تصميم الأزياء، تحت شعار واحد: الملابس هي التي تُحدّد شكل المرأة وروحها. غير أن ما سيأتي بعدها من موضات سيستجيب إلى نزوات تنحو إلى العري، بالتخفُّف بأكبر قدر من الملابس.
مع الوقت وبالتدريج، انكشف جسد المرأة، ما أظهر عيوباً لا يُمكن التستُّر عليها إلّا بالملابس، لكن الموضة لا تعود إلى الوراء إلّا لتقفز إلى الأمام، عندئذ نشأت الحاجة إلى إعادة تشكيل جسد المرأة، وذلك بمساعدتها على التحكُّم بمقاساته، بعمليات البوتوكس والشدّ والنفخ والنحت... كما جرى استعادة الوشم بالكتابة والرسم على الأعضاء على نحو قد يغطّيها بالكامل.
لسلطان التجارة الدور الأكبر في التلاعب بالجسد مهما قيل في الدفاع عن الموضة ومردودها الجمالي، ولو تحت تأثير الفن، ما هي إلا ذرائع لتنشيط أسواق البيع والشراء، بالدعاية والترويج، لاستهلاك بضاعة، ثم ترحيلها ليحل غيرُها محلَّها، على حساب أجساد النساء، بتأثُّر خطى موضة خاضعة للربح والخسارة، لا لمتغيّرات الزمن، وتقلُّبات الفن، وتوالي الفصول، وإنما ابتكار نزوات وشهوات وغوايات... لا يصح التراجع عنها، على ألّا تلتصق بالمرأة، بينما تتطلّب الموضة التخلّي عنها إلى غيرها.
وقد يأتي يوم، يكره فيه البشر أجسادهم لتعذُّر مواكبة الموضة في زمن تتسارع عصوره بالأيام لا بالأشهر.