بمناسبة مرور مئة عام على نشأة حركة الدادائية أو الدادا، أقيم - لأول مرة في العالم العربي - معرض استعادي في "متحف سرسق" في بيروت في آذار/ مارس الماضي. حمل المعرض عنوان "الدادائية الكونية، موت الفن، تعيش الدادائية" ونظّمه السويسريّان جوري شتاينر وستيفان تزفايفل، حيث ضمّ أعمال أشهر الفنانين الدادائيين، إضافة إلى منشورات ونصوص أدبية ووثائق تاريخية تلخّص مسار هذه الحركة.
تأسّست الدادائية كرد فعل على الحرب العالمية الأولى. ففي شباط/ فبراير 1916 تجمّع مثقفون وفنانون ليعلنوا انطلاقة حركة دادا في "مقهى فولتير" في زيورخ السويسرية. صاغ الشاعر الروماني تريستان تزارا - الذي هرب من التجنبد الإلزامي في بلده ليلجأ إلى سويسرا المحايدة في الحرب - مع الشاعر والفيلسوف الألماني هوغو بال بيان تأسيس هذه الحركة الإشكالية، ولم يدركا وقتها أن الحركة سوف تتوسّع في أوروبا وأميركا، وأنها سوف تستقطب أهم الأدباء والفنانين؛ ومنهم ماكس إرنست وهانز أرب ومارسيل دوشامب ومان راي وجورج غروز وكورت شويترز وغيرهم.
ولكن ما هي الدادا؟ هل هي فن؟ فلسفة؟ حركة سياسية؟ دينية؟ هل هي أسلوب حياة أم هي لا شيء؟ لقد قامت الدادائية ضد الفن المكرّس التقليدي، كما أنها حاربت لكي تمنح الفن بُعده الاجتماعي وتحرّره من سلطة البرجوازية.
لفظة "دادا" التي اختيرت من القاموس بشكل اعتباطي "لا تعني شيئاً على الإطلاق" بوصف تريستان تزارا. ولكن بحسب هوغو بال فإن "دادا" في الرومانية تعني "نعم، نعم" وبالفرنسية تعني دمية الحصان الهزاز. قد تعبّر الطريقة التي اختير بها الاسم عن جوهر الدادا أكثر من دلالة الكلمة ذاتها، فلقد سعت الدادائية، وهذا ما يميّزها عن غيرها من الحركات الفنية الناشئة آنذاك، للتخلي عن مفهوم العلاقات السببية في التعبير.
وسّع الدادائيون تقنية الكولّاج والتجميع المستوحاة من التكعيبية لتصبح مفهوماً يشمل أشكالاً متعدّدة من التعبير، لا تقتصر على "اللوحة"، إنما تتعداها لكي تطاول الشعر كما فعل تزارا حين قام بقص قصاصات ورقية تحوي على كلمات وعبارات من مقالات صحافية، ووضعها في كيس وخضّها جيداً ثم تركها تتناثر على طاولة ليعود ويرتبها بشكلٍ اعتباطي لتنشأ قصيدة كولاج من نظم الصُدفة.
طوّرت الدادائية العديد من أشكال التعبير الأكثر ابتكاراً في القرن العشرين مثل "الريدي ميد"، كما في أعمال دوشامب و"الفوتومونتاج" الظاهرة في أعمال مان راي، إضافة إلى الاستخدام الفني للتصوير السينمائي والفوتوغرافي. كما تأثرت بظهور مدارس فنية أخرى كالسريالية والدادائية الأميركية الجديدة، حيث يظهر تأثير كورت شويترز، مؤسّس حركة "Merz" والذي يجسّد الخط الفرداني والفوضوي، في حركة دادا، على أعمال الفنانين الأميركيين وخصوصاً روبرت روشنبرغ.
روح "الأناركية" أو اللاسلطوية الفوضوية موجودة في كل الإنتاجات الدادائية الأدبية والفنية والمنشورات النظرية، كما في البيان الأخير الذي ألقاه تزارا، العصب الأساسي في الدادائية، نهاية عام 1921، معلناً نهاية هذه الحركة "إن دادا تشقّ طريقها وهي ماضية لا في التوسّع ولكن من أجل تخريب ذاتها، وهي لا تسعى إلى نتيجةٍ أو مجدٍ أو حتى فائدة. فقد كفّت نهائياً عن الكفاح لأنها تدرك أن ذلك لا يخدم غرضاً ما. لقد عبّرت دادا عن حالتنا الذهنية الساخرة وكانت للرافضين من أمثالنا نقطة الارتكاز بين نعم ولا، ولأن دادا كانت لا تؤمن بشيء حتى بمبادئها فإني أعلن نهايتها اليوم".
استطاعت الدادائية، خلال نشاطها الذي استمر لخمس سنوات، نشر أفكارها الجمالية والأدبية والسياسية بشكل سريع، وأن يصبح لها أتباع في برلين ونيويورك وباريس وطوكيو. قد يكون الجانب التبشيري المرتكز على مفهوم "البروباغاندا" أو الدعاية الإعلامية من جرائد ومحاضرات ونشر البيانات إلى المظاهرات والمناظرات هو أحد أسباب هذا الانتشار الواسع بلا شك، إلى جانب أنها نشأت احتجاجاً على الحرب وكرد فعل على الفن السائد في ذلك الوقت. لقد سعت الدادائية إلى إلغاء الحواجز بين الفن والحياة.
قد يكون تأثير الدادائية محدوداً في عالمنا العربي مقارنة بتأثيرات حركات واتجاهات فنية أخرى وافدة من الغرب. ومن المؤكّد أن استخدام تقنيات كالكولاج والتجميع في أعمال بعض الفنانين العرب لا يجعلها تنتمي، فكرياً ومفاهمياً، للدادائية.
ورغم الهجرة الواسعة التي طالت العالم العربي منذ 2011 نتيجة للانتفاضات العربية التي استحال بعضها إلى حروبٍ طاحنة، وتجمّع إثرها العديد من الفنانين في بلاد اللجوء إلا أننا لم نشهد نشوء - على الأقل حتى الآن - حركات مماثلة للدادائية. فشرطي اللجوء والاحتجاج على الحرب والعنف لا يكفيان لتأسيس حركة مشابهة ذات طابع عربي. لكن علينا ألا ننكر أن الفترة الماضية شهدت معارض جماعية وتظاهرات ثقافية تمركز معظمها في بلاد المهجر، وكان لها دور كبير في تسليط الضوء على المأساة الإنسانية التي خلّفتها كوارث الحروب، غير أن التعبير عن هذه الأحداث العنيفة لا يزال، بشكلٍ عام، في طور التقليدي والمباشر.
ليس المطلوب أن يُنتج الفنانون العرب المهاجرون حركة فوضوية كالدادائية فالتراكم المعرفي والثقافي في أوروبا لا يشبه نظيره في عالمنا العربي، ولكن عليهم، ربما، ضمن شرطهم الجديد أن يعيدوا النظر في مفهوم ودور الفن اليوم.