لقاء الصدفة

25 يناير 2016
قرّرا العودة سيراً على الأقدام (فرانس برس)
+ الخط -
*إلى رامي..

فجأة، ركنت السيارة الرباعية السوداء جانباً. نظر السائق إلى كاتب هذه السطور ملياً. وابتسم قبل أن يترجّل من السيارة.

ربما مرّت عشر سنوات كاملة. وربما كانت أكثر من ذلك. على أن عدد السنوات التي مرّت لا يهم. ففي اللحظة التي نظر فيها الرجلان إلى بعضهما عادا طفلين، في السادسة أو السابعة، نسيهما سائق باص المدرسة. غير أن الطفلين يومها شجّعا نفسيهما، حملا حقيبتيهما على ظهرهما الصغيرين وقرّرا العودة سيراً على الأقدام إلى المنزل، قاطعين منطقتين أو ثلاث كانت تفصلهما عن المنزل، وقد كان زمان حرب أهلية.

صرخة الأهل كانت مدويّة بوجه الإدارة في اليوم التالي. لكن بين الطفلين ستنشأ صداقة حقيقية تدوم طويلاً.

لم يكونا رفيقي مدرسة فحسب، بل رفيقي مرحلة عمرية كاملة، بحلوها وخوفها وأحلامها وجنونها. التقيا في المدرسة، وفي الفرقة الكشفية، وفي الفرقة الموسيقية. أعجبا بالفتاة نفسها. وسوياً اكتشفا عالم المراهقة.

كان الصديق صاحب بنية ضخمة. سهلت لنا فيما بعد، نحن مجموعة المراهقين، الدخول إلى الأماكن المحظورة، ومن بينها محلات "الفليبرز". تلك الآلات الإلكترونية الضخمة التي كان الأهل يصرّون على أبنائهم بأن اللعب فيها "حرام"، لما فيها من خسارة للّيرات القليلة التي كانت عبارة عن "الخرجية" الأسبوعية، مثلما سهّلت بنية الصديق في الدخول إلى السينما لمشاهدة أفلام شهيرة، صُنّفت في ذلك الوقت "ممنوعة" على من هم في سنّ المراهقة.

سوياً حلما وضحكا وبكيا حين خذلتهما الحياة. تواطأا ليهرّب أحدهما الآخر مساء كل يوم جمعة من دكان السمانة الذي فرض على الصديق أن يداوم فيه مع بقية إخوته بعد أن رحل أبو مصطفى، الجد العجوز. وحده الجد لم ينس حادثة الباص المدرسي الذي ترك الطفلين وراءه وظل يذكّرهما بها حتى آخر أيامه، تأكيداً على الصداقة الحلوة التي بدأت بصدفة.

عادت كل هذه المشاهد لبرهة كأنها فيلم سينمائي. لعلهما تذكراها في تلك اللحظة من دون أن يعلّقا. سلّما على بعضهما بحرارة وتعانقا. صرخ الصديق لطفلٍ صغير يجلس بجانبه ليعرّفه على من شاغب مع والده في أحلى أيامهما. قال له: "هذا صديق طفولة والدك". ضحك الولد من دون أن يفهم شيئاً. لن يعرف كل ما سبق إلا في مرحلة لاحقة من عمره. وربما لن يعرفها أبداً. لكنهما عرفاها.

بعض الناس يكون لقاء الصدفة بهم أجمل ما يمكن أن يحصل في صباح المدينة المزدحم. بعض الناس مساحتها في القلب لا تنقص ولا تغيب، مهما فرّقت الأيام.

اقرأ أيضاً: أصدقاء المدرسة
المساهمون