الشاشة الصغيرة والمجتمع الكبير

19 سبتمبر 2019
غرق في الأوهام (خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -

يتحدث ابن المقفع في كتابه "كليلة ودمنة" عن أحد القطط الذي دخل إلى مشغل أحد النجارين وأخذ يتجول بين الأخشاب والعُدة المتناثرة حتى عثر على مبرد. لم يلحظ القط أن لهذه الآلة المعدنية رائحة ليميزها عن سواها، فعمد إلى حاسة التذوق يستطلع طعمها. وعندما فعل وجد على المبرد دماً استساغ طعمه، وقرر أن يلعقه ثانية، وهكذا حتى سال دمه هو، بينما كان يظن أنه دم المبرد.

تشبه هذه الواقعة حال الكثيرين من مدمني التلفزيون والإنترنت الذين يمضون ساعات غير محدودة من أوقات فراغهم أو من أعمارهم بالأصح في متابعة هذين الجهازين أو العالمين. ويُجمع الشبان والشابات، بمن فيهم الجامعيون، على أنهم لو استطاعوا لما تحركوا من أمام الشاشة، لكنهم يكتفون على الأقل بتمضية أوقات فراغهم مسمّرين أمامها. ومثل هذا الخيار يريح فئات واسعة من الأهل الذين يثنون على هذه العادة البيتية التي تقي أبناءهم وبناتهم شرور ما يدور في المجتمع وأخطاره الكبرى التي تبدأ من الانحرافات الصغيرة إلى الكبيرة. في المنزل حيث يمضي هؤلاء ساعات وساعات يكونون إلى هذا الحد أو ذاك عند مراقبة لصيقة من آبائهم وأمهاتهم. هذا جانب، أما الجانب الموازي فيقلل من حاجتهم إلى نفقات تتطلبها عملية ارتياد المقاهي وأماكن التسلية.

ليس في الأمر مشكلة عندما تكون مثل هذه التسلية ضمن المعقول من الوقت والحصانات، لكنها تتحول لدى الكثيرين إلى نوع من أنواع الإدمان الذي لا يستطيعون منه فكاكاً. المشكلة أن المشاهدين يتصرفون على أن التلفزيون ومثله الإنترنت هو كل شيء بالنسبة لهم، فهو ليس مصدر التسلية فقط، بل مصدر المعرفة والعلاقات في المقام الأول أيضاً. لذلك، يتردد في كلامهم القول إنه يزودني بكل ما أحتاجه من أخبار وبرامج ومعارف علمية وصداقات، وهو النافذة المفتوحة أمامي والتي أطل منها على العالم، ففيه كل شيء، بدءاً من البرامج الإخبارية إلى البرامج الفنية والأفلام العربية والأجنبية والموسيقى وكل ما أحتاج إليه. ولأنه على هذا الاتساع من تقديم ما يحتاجه هذا المشاهد، تصبح الخطورة مضاعفة عن حدودها الطبيعية، إذ من خلال الانغماس في برامجه يصبح هو الهادي والموجّه السلوكي، فمن زاوية ما يطرحه يتم تقييم الحياة وتقليد "الأبطال". بمعنى أن هذا العالم الافتراضي يحل محل العالم الواقعي والحقيقي، بما يجعل المتلقي متماهياً ومسحوراً بالشخصيات التي يراها على الشاشة، أو منقاداً وغارقاً في الأوهام التي تبثها.



شئنا أم أبينا هنا يحدث الانعزال عن العالم الخارجي، سواء أمثلته الأسرة أو المجتمع الأكبر، وبما يقود إلى نوع من أنواع الغربة عن مشكلات المحيط، وتباعاً يفتقد صاحبه القدرة على التواصل مع الآخرين. إذن يكرس مثل هذا الوضع حالة الخمول والكسل من جهة، وتشرّب مفاهيم وقيم قد تكون قاتلة، وعادات مصنّعة وملونة مرسلة عبر الرسائل الإخبارية والفنية يظن من تصله أنها محايدة ولا أهداف لها سوى إشباع غريزته للتسلية، بينما هي في الحقيقة تسعى إلى تدجينه ضمن القوالب التي تعمل عليها. يعيش الشباب إذن بين عالمي الوهم والحقيقة، عالم يتوهمون أنهم ينخرطون في مجرياته، وعالم آخر ينفصلون كلياً عنه.

(باحث وأكاديمي)
دلالات
المساهمون