استمع إلى الملخص
- **تحديات واحتجاجات**: واجه المنتخب تحديات عديدة، منها الانسحاب من مونديال 1934 و1938 احتجاجاً على تنظيم البطولة في أوروبا، وحقق فوزاً تاريخياً على البرازيل في مونديال 1950.
- **استثمار في الماضي**: رغم تراجع الأداء، استثمرت الأوروغواي في ذاكرتها الكروية من خلال المدرب أوسكار تاباريز ومتحف كرة القدم في ملعب السنتيناريو.
مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة. تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب الأوروغواي.
في كتابه "كرة القدم في الشمس والظل"، عبّر الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو (1940 - 2015) عن اغترابه وهو يشاهد كرة القدم الحديثة. يروي من خلال لقطات من تاريخ كرة القدم، يوردها بترتيبها الزمني الطبيعي، علاقته العميقة بكرة القدم منذ الخمسينيات، وصولاً إلى انسحابه التدريجي من متابعتها، مع التغيّرات التي طرأت عليها فحوّلتها إلى صناعة باردة، وكأنه بذلك يروي ما حدث لمنتخب بلاده الذي اختفى في النصف الثاني من كتابه، كما اختفى عن التتويجات في النصف الثاني من القرن العشرين.
لهذا السبب أو ذاك، فإن "تاريخ كرة القدم هو رحلة حزينة" بالنسبة لغاليانو؛ لأن اللعبة انتقلت "من المتعة إلى الواجب"، في تحليل غير مستغرب من صاحب كتاب "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية" الذي يكشف فيه تاريخ النهب الذي فرضه الاستعمار الأوروبي، ثم الهيمنة الأميركية على جنوب القارة الأميركية، وقد حدث شيء من ذلك -ولو بشكل غير مباشر- في اللعبة الأكثر شعبية في العالم، حيث تطبّعت بالنزعة المنفعية حتى باتت "كرة القدم الاحترافية تستنكر ما هو غير مفيد. وما هو غير مفيد في عُرفها هو كل ما لا يعود بالربح. وليس هناك أرباح تجنى حين يتحوّل الرجل لبرهة إلى طفل". حين انتهى ذلك الزمن لم يعد للأوروغواي مكان بين الكبار.
من ينظر في الخريطة سيجد هذا البلد محشوراً في زاوية من خريطة أميركا الجنوبية بين ثلاث كتل ضخمة؛ البرازيل شمالاً والأرجنتين شرقاً، والمحيط الأطلسي ويأتي منفذاً وحيداً إلى العالم بعيداً عن الجارين. ولقد خاض الأوروغوانيون حروباً كثيرة في القرن التاسع عشر، كي يكونوا بلداً مستقلاً، فبعد أن انتهت حروب التحرر من الاستعمار الإسباني ما بين 1811 و1817، كان عليهم خوض حروب جديدة مع البرازيل والأرجنتين الناشئتين، وكل منهما يدعي أن الأوروغواي مجرّد امتداد طبيعي له.
هذا التاريخ المتوتر يشير إلى صعوبة أن يجاور بلد صغير، أيضاً من ناحية التعداد السكاني (2 مليون نسمة بداية القرن الماضي وبلغ 3.5 ملايين بداية القرن الجاري) عملاقي قارته. لكن تاريخ كرة القدم، يُخبرنا بأن الأوروغواي قد افتكّ لنفسه حيزاً من الندية، والتفوّق أحياناً، ثمّ ما يلبث أن يعود إلى حجمه الطبيعي.
بفضل ألقابه المبكّرة، كان الأوروغواي لزمن طويل المنتخب الأكثر تتويجاً في العالم في المسابقات الدولية. في ذلك، كانت الاستراتيجية كالتالي: خذ نصيبك مبكراً قبل أن تضيع الفرصة إلى الأبد، أي وقتما تضع الأمم كل مقدّراتها من القوة البشرية إلى النفوذ السياسي لتحقيق الألقاب الكروية. وهكذا حصد الأوروغواي أول مسابقة دولية في التاريخ، "كوبا أميركا" لعام 1916، وكذلك أول كأس عالم حين نُظّمت على أرضه عام 1930.
في منتصف القرن العشرين، كان الأوروغواي البلد الأكثر تتويجاً في العالم بمونديالين، و9 كوبا أميركا. وفي نهاية القرن، ظلت الأوروغواي بالرصيد نفسه من كؤوس العالم، فقط أضافت ألقاباً أخرى من كوبا أميركا، فوصلت إلى 14 لقباً قارياً، لتعود إلى الصدارة على مستوى العدد الإجمالي للألقاب الدولية، بعد أن تجاوزتها الأرجنتين، فلم ينته القرن إلا وقد صار لكليهما كأسا عالم و14 لقباً في كوبا أميركا. أما البرازيل فحققت 4 كؤوس عالم، لكنها لم تحرز "كوبا أميركا" سوى 6 مرات طوال القرن.
ظلّ التعادل بين الأوروغواي والأرجنتين مستمراً حتى عام 2011. عامها نظّمت الأرجنتين "كوبا أميركا، على أمل أن تفض الشراكة مع "الجار الصغير"، غير أن ميسي وزملاءه كانوا يعيشون وقتها عقدة التتويج ما بعد مارادونا (لم تحقق الأرجنتين أي لقب منذ 1993)، وأدهى من ذلك تُوّجت الأوروغواي بالكأس وعادت منفردة في صدارة ترتيب الفائزين بالألقاب الدولية. دام ذلك عشر سنوات قبل أن تتوالى في السنين الأخيرة ألقاب الأرجنتين (كأس العالم 2022 وكوبا أميركا 2021 و2024) فتحسم الصدارة لصالحها.
وإضافة إلى المسابقات الدولية الكبرى، حقّق منتخب الأوروغواي ميداليّتين ذهبيّتين في أولمبياد باريس 1924 وأمستردام 1928 توالياً. ولولا هذان اللقبان ربما لم يكن هذا البلد ليقنع مسؤولي الفيفا عام 1929 بتنظيم المونديال الأول، وبالتالي كان ذلك عاملاً رجّح كفّة الأوروغواي في نيل كأس العالم. ليس فقط بفضل الحضور الجماهيري ودعم الدولة، بل أيضاً لأن معظم المنتخبات الأوروبية (إيطاليا، ألمانيا، إسبانيا، المجر...) تغيّبت عن المشاركة معلنة عدم رضاها باختيار "بلد بعيد" لتنظيم المسابقة، فيما ترفعت إنكلترا، البلد الأعرق في كرة القدم، عن المشاركة.
بالنسبة لـ "فيفا" كانت الأوروغواي فرصة لتكون كأس العالم عالمية بالفعل، وقد أثبتت النتائج الرياضية أن وراء ذلك المنتخب شعبٌ شغوف باللعبة سيقدم عروضاً جماهيرية جيّدة. وإلى ذلك، وهي النقطة التي حسمت موقف "فيفا" فإن الأوروغواي أعلنت عن بناء ملعب عملاق بمناسبة كأس العالم 1930 التي تتزامن مع مئوية استقلالها، وهو الملعب المعروف باسم "سنتيناريو" (المئوية). ألم تكن تلك هي الخطوة الأولى التي أوصلت كرة القدم إلى ما عليه اليوم، أي فضاءً ما فوق رياضي تعبره الرهانات الرمزية والجيوسياسية والاقتصادية. وهو صلب ما ينتقده غاليانو، غير أنه كان يحدث في النصف الأول من القرن العشرين بمقادير صغيرة.
لن يدافع منتخب الأوروغواي عن لقبه، ففي مونديال 1934 في إيطاليا قرر الاتحاد المحلي عدم المشاركة في رد على ما فعلته البلدان الأوروبية قبل أربع سنوات. وفي دورة 1938، أيضاً، لم تشارك الأوروغواي احتجاجاً على منح تنظيم كأس العالم لفرنسا، أي إقامتها للمرة الثانية على التوالي في أوروبا. كما لم تدافع الأوروغواي عن ميداليتها الذهبية في مسابقة كرة القدم في الألعاب الأولمبية عام 1932 في لوس أنجليس، هذه المرة لأن الهيئة الأولمبية انزعجت من تنظيم إحدى الرياضات مسابقة دولية خارج إطارها.
في الأربعينيات عُلّقت معظم المسابقات الرياضية الدولية، بسبب الحرب العالمية الثانية. تدمّرت مدن أوروبا خصوصاً، فتوقف تاريخ كرة القدم هناك بضع سنين، لكنه استمر في أميركا الجنوبية فقد تواصلت زمن الحرب كوبا أميركا بشكل منتظم. بذلك استفادت الأوروغواي من انخفاض حدة المنافسة العالمية سنوات أخرى. وحين انتهت الحرب كان منطقياً أن يُمنح تنظيم كأس العالم إلى بلد من أميركا الجنوبية، ولم يكن أفضل من البرازيل الذي بنى صرح الماراكانا من أجل أن يكون شاهداً على تتويجه بكأس العالم 1950.
غير أن الأوروغواي هي من أحرزت كأس العالم 1950. وقد خلقت تلك المباراة عداوة بين الجارين أكثر من الحروب العسكرية منذ قرن. روى غاليانو في كتابه كيف عاش طفل العشر سنوات ذلك الإنجاز عبر الراديو. انتصرت الأوروغواي لأن البرازيل أعطت اللعبة أكثر من حقها بكثير فحوّلتها إلى مسألة حياة أو موت، فيما لعب الأوروغوانيون بقيادة سكيافينو وغيغيا بخفة وبدون ضغوط. لعبوا كرة القدم كما ينبغي أن تلعب. ولا ندري هل هي استعارة أم حكاية واقعية حين أورد غاليانو أن صحف البرازيل طبعت صباح النهائي عدد اليوم الموالي بعناوين بارزة يظهر فيها منتخب البرازيل بطلاً للعالم، ومن ثمّ ذهب رؤساء التحرير والصحافيون وعمال المطابع لمشاهدة المباراة التي تحوّلت إلى كارثة وطنية. وصف غاليانو لحظة تتويج الأوروغواي بأنها لحظة "الصمت الأكثر دوياً في تاريخ كرة القدم".
تبدو حكايتا تتويج الأوروغواي متناظرتين، في المرة الأولى انتصر "المنتخب السماوي"، لأنه أكثر من عرف قدر كرة القدم، وحرص على استثمارها، وفي الكأس الثانية استفاد من إعطاء البرازيل كرة القدم أكثر مما تستحق. بعد الوصول للقمة، سواء كان ذلك عن جدراة أو بالصدفة فالأمر سيان، إذ لم يبق سوى التراجع. عادة ما يكون الحكمُ الذي تطلقه هذه المقولة أمراً ظرفياً لكنه بالنسبة للأوروغواي فهو مستمر منذ 1950. ولا يبدو من المنطقي أن يعود المنتخب السماوي للقمة، حتى بفضل الحظ، فقد تغيرت كرة القدم كثيراً.
منذ الخمسينيات إلى أيامنا، يبدو تاريخ منتخب الأوروغواي مثل لقطات متفرّقة. وللإشارة فإن كتاب "كرة القدم في الشمس والظل" قام على صيغة فريدة من النصوص القصيرة المكثفة التي تروي تاريخ كرة القدم، عبر لقطات متفرفة كثيفة بالمعنى. وسنجد أن هذا المنطق في تأليف الكتاب شبيه بتاريخ الأوروغواي الكروي الذي لا امتداد فيه. لم يعد المنتخب السماوي من بين المرشّحين لنيل كأس العالم، أفضل نتائجه في النصف الثاني من القرن العشرين كان بلوغ نصف النهائي في 1954 و1970. وفي معظم الدورات اللاحقة خرج الأوروغواي من الدور الأول أو لم يبلغ النهائيات، ولن يعود إلى تحقيق مشاركة جيّدة في كأس العالم إلا عام 2010، حين وصل مجدداً إلى نصف النهائي. كانت "كوبا أميركا" تكسر هذا الصيام الطويل، حيث حققت الأوروغواي ألقاباً متباعدة آخرها 1987 و1995 و2011.
أهم ما يطرحه منتخب الأوروغواي اليوم هو الذكريات. على القميص السماوي، وفيما تجري العادة بوضع نجمة على كل كأس عالم، نجد 4 نجوم ذلك أن الأوروغوانيين يعتبرون أن ذهبيّتي الأولمبياد قبل إطلاق كأس العالم بمثابة التتويج المونديالي. كما أن النوستالجيا لعصر الإنجازات تمتد إلى اقتراح تنظيم بطولات، ومنها الطلب المشترك مع الباراغواي والأرجنتين لتنظيم كأس العالم 2030، لتعود الكأس من حيث انطلقت، وبالرغم من أن الملف المشترك المنافس (المغرب وإسبانيا والبرتغال) قد تفوّق، فإن "فيفا" قرّرت أن تمنح ملعب السينتياريو شرف احتضان المباراة الافتتاحية.
كانت "فيفا" قد سايرت النوستالجيا الأوروغوانية سابقاً، ففي عام 1980 قبلت مقترحاً بتنظيم ما سمّي بـ"الموندياليتو" (المونديال الصغير) احتفالاً بمرور 50 عاماً على أول كأس العالم، وكما نعرف فهو احتفال بمرور المدة نفسها من تتويج الأوروغواي بكأس العالم. دُعيت لهذه المسابقة المنتخبات المتوجة بكأس العالم حتى ذلك الوقت: الأوروغواي وإيطاليا وألمانيا والبرازيل وإنكلترا والأرجنتين. وكعادتها لم ترغب إنكلترا في المشاركة، فاستُبدلت بوصيف كأس العالم الأخيرة هولندا. انتهت "كأس الذكريات" هذه بفوز الأوروغواي على أرضها. لقد أعاد التاريخ نفسه بشكل ما بعد نصف قرن، حتى من ناحية أن منتخب الأوروغواي هو أكثر، بل غالباً هو الوحيد الذي أخذ تلك الدورة على محمل الجد.
بمرور السنوات تتباعد أمجاد الأوروغواي الكروية، لكن أبناء هذا البلد لا يفتأون يعودون إليها. كان المدرب أوسكار تاباريز الذي حاول إعادة عظمة الأوروغواي من جديد ما بين 2006 و2021 قد وضع ضمن برنامج الإعداد النفسي للاعبيه حصص مشاهدة لمباريات الأوروغواي القديمة. وبشكل ما، يمكن القول إنه نجح في تحريك مياه راكدة، فقد تحسّن المنتخب أثناء إشرافه عليه، وتطوّر خصوصاً مستوى اللاعبين الأوروغوانيين، ليس بقميص المنتخب فحسب، بل خلال مغامراتهم في الأندية الأوروبية الكبيرة أيضاً، كان أولهم دييغو فورلان، وصولاً الى فيديريكو فالفيردي في أيامنا.
إن أهم دور تلعبه الأوروغواي اليوم أنها تشير إلى أن كرة القدم كانت تُلعب وفق معادلات أخرى. تماماً كما يحلو لكاتبها إدواردو غاليانو أن يقدّم لنا كرة القدم في أزمنة كانت ظاهرة بحجم بشري، قبل أن تتحوّل إلى لعبة "مؤلفة من موظفين متخصّصين في تفادي الهزيمة عوضاً عن اللاعبين الذين يجازفون بإلهام" وفق عباراته. وحين أصبح من الصعب الاستثمار في النتائج الرياضية في ظل احتدام المنافسة العالمية بما لا يقوى عليه بلد مثل الأوروغواي، ها هو يستثمر في ذاكرته الكروية أساساً، وهو ما يتجلى في تخصيص جزء من ملعب السنتيناريو ليكون "متحف كرة القدم".