أطفال متوحّدون.. محاولة لدمجهم في مجتمع يجهل معاناتهم

02 ابريل 2015
89 طفلاً يستفيدون من برنامج دمج الجمعية اللبنانية(حسين بيضون)
+ الخط -

في الثاني من إبريل/ نيسان، يُحتفى باليوم العالمي للتوعية حول مرض التوحّد الذي ما زال يحيّر العلماء. بالمناسبة، إضاءة على مبادرة للجمعيّة اللبنانيّة للتوحّد تهدف إلى دمج الصغار.. ولو مدرسياً.

في مدرسة القلب الأقدس - فرير الجمّيزة في بيروت، يتابع عدد من الأطفال حصة تأهيل مهني خاصة بمرضى التوحّد، وذلك من ضمن برنامج "الدمج المدرسي" الذي تعدّه "الجمعية اللبنانية للتوحّد".

يتشارك الأطفال الخمسة، الذين تتفاوت أعمارهم ما بين 11 و14 عاماً، في شكّ حبات الخرز الحمراء في أسلاك معدنية دقيقة تزوّدهم بها المشرفة التربوية. يتوالى شك تلك الحبات بتركيز شديد، إلى أن يثيرهم دخول أشخاص غرباء إلى بيئتهم الخاصة في غرفة الصف. وتختلف ردود فعلهم. فيقفز أحدهم تعبيراً عن فرحته ويواصل قفزه، في حين يركض آخر ليعرّف عن نفسه، أما ثالث فيلازم كرسيه مصدراً أصواتاً غريبة.

تشرح المشرفة رلى من "الجمعية اللبنانية للتوحّد"، وهي واحدة من أبرز الجمعيات المعنية بهذا المرض في لبنان، أن اختلاف ردود الفعل "ناتج عن اختلاف الحالة النفسية للأطفال المصابين بالتوحّد. لا يمكن مقارنة حالتَي توحّد في أية حال من الأحوال، لأن الأعراض وَحِدَّتَها تتفاوت بشكل كبير من مصاب إلى آخر".

تنتهي الحصّة، فتودّع رلى الأطفال. يتأخر بعضهم في الاستجابة لها، ويبدو تلويحهم مصطنعاً أو على سبيل التقليد لزملائهم الذين سارعوا إلى ردّ التحية.

تنتقل المشرفة إلى غرفة الصف المجاورة المخصصة للأطفال الأصغر سناً، لمتابعتهم في أثناء استراحتهم بين الحصص الدراسية. تتفاوت ردود فعل هؤلاء أيضاً، بين مرحّب بحماسة ومستغرب. تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء يبدون أكثر حركة وفوضوية من الأطفال الأكبر سناً. فتشير رلى إلى "معاناة بعضهم من فرط الحركة. لذلك، هم يزوّدون بأدوية تساعد في تهدئة نشاطهم". تضيف أن "فرط الحركة يتناقص مع تطوّر مراحل متابعة الأطفال وعمرهم".

تضع رلى الاختلاف في ردود الفعل والتجاوب السمعي والبصري، والتركيز في خلال النشاطات، في إطار "خصوصية مرضى التوحّد الذين تختلف أعراضهم المرضية. حتى أن بعضهم لا يظهر أي أعراض باستثناء الانزواء وعدم التجاوب". وتحذّر المرشدة من خطورة "رفض شرائح واسعة من المجتمع دمج الأطفال الذين يعانون من التوحّد، بسبب جهلهم بالمرض. وبعض المؤسسات لا ترحّب بنا حتى للتعريف به!".

تجدر الإشارة إلى أن الجمعية تقصد المؤسسات التجارية لتأمين عمل من دون مقابل للأطفال المتوحّدين الأكبر سناً، أما الهدف فاندماج فعلي وحقيقي مع المجتمع وتقديم المتوحّدين كأشخاص منتجين.

إلى ذلك، يقسّم أهل الاختصاص الأطفال المرضى بحسب ثلاث درجات للتوحّد: طفيف ومتوسط ومتقدّم. وقد عرّفته منظمة الصحة العالمية بأنه "اضطراب نمائي يظهر في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، ويؤدي إلى عجز في التحصيل اللغوي واللعب والتواصل الاجتماعي".

وتتنوّع تعريفات الاضطراب، الذي أشير إليه للمرة الأولى في عام 1940، وتتنوّع كذلك أعراضه. وهو الأمر الذي يؤدي إلى "ضعف في معرفة المجتمع به وفي كيفية التعاطي معه"، بحسب ما تقول مديرة الجمعية اللبنانية للتوحّد أروى الأمين حلاوي.

وكانت الأمين حلاوي قد انطلقت من تجربة شخصية مع المرض لتؤسس جمعية تعنى بمتابعة الأطفال، الذين يعانون من التوحّد في لبنان. فتروي:"شخّصت إصابة ابني بمرض التوحّد عندما كان في الخامسة من عمره. واليوم يبلغ من العمر 25 عاماً. هو كبر في خلال هذه السنوات وكبرت معه الجمعية التي تأسست في عام 1999 على أثر لقاء لمجموعة من الأهل الذين يعاني أطفالهم من التوحّد".

وتهدف الجمعية إلى دعم الأهل من خلال مجموعات تدريب تؤمّن لهم الاطلاع والمعرفة الكافية للتعاطي من أطفالهم المصابين، وكذلك إلى خدمة الأطفال أكاديمياً ومهنياً من خلال برنامج الدمج المدرسي والتدريب المهني والتدخل المبكر.

تضيف الأمين حلاوي أن الجمعية تسعى أيضاً إلى نشر التوعية حول التوحّد "لأن معاناة الأهل والأطفال كبيرة وسط جهل المجتمع خصائص المرض وطريقة التعاطي معه. فكثيراً ما يخطئ الناس بين التوحّد والدلع. هم قد يرون في نوبات الصراخ الهستيري والانزواء التي يظهرها الأطفال المصابون بالتوحّد في الأماكن العامة، شكلاً من أشكال الدلع أو نتيجة لقلة (سوء) التربية".

ويؤشّر غياب الإحصاءات الرسمية إلى ضعف المعرفة العامة بالمرض. ويعود آخر رقم رسمي مُعلن لمرضى التوحّد في لبنان إلى أغسطس/آب من عام 2011 عندما أعلن وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك (وزير الصحة العامة الحالي)، وائل أبو فاعور، "تصنيف التوحّد كحالة مستقلة ومنفصلة عن الحالات التي تهتم بها وزارة الشؤون الاجتماعية، لتأمين تغطية أكبر لـ 477 حالة توحّد شخّصتها الوزارة".

يُذكر أنه وفي خلال أربع سنوات، ارتفعت نسبة الإصابة بالمرض من طفل واحد من أصل 88 طفلاً إلى طفل واحد من أصل 68 طفلاً على الصعيد العالمي. كذلك ارتفع عدد الحالات التي شخصتها الجمعية منذ عام 2005 إلى 670 حالة (اليوم) تبلغ كلفة متابعتها السنوية أكثر من ثمانية ملايين دولار أميركي. وتشرح الأمين حلاوي ذلك قائلة إن "كل حالة تكلف مبلغاً وسطياً قدره 12 ألفاً و500 دولار، تغطي وزارة الشؤون الاجتماعية نحو 4500 دولار منه، في حين تتكفل الجمعية بتسديد فارق المبلغ للعائلات التي تعجز وحدها عن تحمّل كلفة المتابعة الباهظة". وقد وقّعت الجمعية اتفاق تعاون العام الماضي مع وزارة الصحة العامة لزيادة التغطية المالية وعدد الحالات المشمولة بتلك التغطية.

وتعود أسباب ارتفاع كلفة المتابعة إلى حاجة كل طفل مصاب إلى فريق متابع مؤلف من اختصاصيّين في النطق والتربية المختصة ومن معالج نفسي و"أستاذ ظلّ" يرافق الطفل في خلال مرحلتَي التأهيل الأكاديمي والمهني. وهو ما تقدمه الجمعية في مراكزها التي أنشأتها في إطار حرم عدد من المدارس الخاصة في العاصمة اللبنانيّة بيروت، والتي تؤمّن المتابعة اللازمة للأطفال الخاضعين لبرنامج الدمج. فيتلقى الأطفال الحصص العادية (رياضيات ولغات عربية وإنكليزية وفرنسية) مع التلاميذ الآخرين، بالإضافة إلى جلسات أسبوعية لتحسين النطق والاستجابة.

وتؤكد الأمين حلاوي أن "الجهد الكبير والكلفة المرتفعة لا يذهبان سدى، لأن التقييمات الطبية وملاحظات الأهل تظهر التطور الكبير في قدرات الأطفال الخاضعين للبرنامج. وثمّة قدرة بالتالي على تحقيق اندماج كامل في المجتمع في خلال فترات الدراسة". وتقدّم الجمعية اليوم خدماتها لنحو 89 طفلاً موزّعين على مدرستَي القلب الأقدس - فرير الجميزة والضحى.

محمد مصاب بالتوحّد، يتابع دراسته في الصف الأول في ثانوية الضحى عند مستديرة شاتيلا في بيروت، التي يقصدها مذ كان في الروضة الأولى. وكانت إقبال، والدة محمد، قد اكتشفت مرض ابنها "عندما لاحظ فريق العمل في الحضانة عدم استجابته عند مناداته باسمه، بالإضافة إلى هدوئه الزائد عن الحدّ الطبيعي. فراجعنا طبيب أمراض نفسية وعصبية".

لا تنكر إقبال أن عائلتها عانت في البداية. ومن ثم، تعرّفت عن طريق الصدفة على الجمعية التي "أجرت لمحمد اختبارات نطق وحركة وتفاعل حسي. وأصبحنا على دراية أكبر بالاضطراب وبكيفية التعاطي معه". وقد أهلت هذه الاختبارات محمد ليكون من ضمن برنامج الدمج المدرسي، بالإضافة إلى متابعة حصص تأهيل أسبوعية على النطق والحركة والتفاعل.

لا تشكّل حالة محمد في الاستجابة استثناءً، إذ إن مصابين بالتوحّد سبق وأبدعوا كالرسام، علي طليس، الذي أقام معرض "نزهة في البستان" على مدى عامَين قدّم فيه 13 لوحة عن الطبيعة. لكن نجاحات بعض هؤلاء تبقى بحاجة إلى متابعة طبية ونفسية مكلفة، وتبقى الحالات الأكثر تقدماً من المرض بعيدة عن الأضواء ومعزولة في بيئتها.
المساهمون