بائع الحكمة

28 مارس 2016
أريد أن أبقى في متاهة هذا الكون (فرانس برس)
+ الخط -
لم يكن متسوّلاً عادياً. كان رجلاً باسماً وبائع حكمة. لن يكون لقاء أي مرء معه لقاءً عابراً. "السيّد الشحاذ" أمامي. على وجهه فرحة غريبة، وإن غير مكتملة. ملامحه هادئة لا تشي بالجنون الذي يسكنه. لا يرمي كلماته. كل كلمة هي حتماً في مكانها وبحجمها الطبيعيين.

توقّف السيارة عند إشارة ضوئية طالت مدّته، في إحدى العواصم العربية التي كنت أزورها. لفتتني هيئة رجل خمسيني يجلس على الأرض وأمامه سلة صغيرة يجمع فيها نقوداً تُرمى له. ملابسه قديمة ومهترئة، فيما ينتعل نصف حذاء في كل واحدة من قدميه. على الرغم من ذلك، كان يبدو سعيداً، لا ينظر إلى العالم المهترئ حوله كما ينظره ذلك العالم إليه. شيء ما يأسر عقله وقلبه. لا بدّ من أنّ الكتاب الذي تمسك به أصابعه المتعبة فيه كثير من الأسرار. نظرتُ إليه، فانتبه لي. ابتسم، ثم عاد إلى عالمه الخاص. "صباح الخير يا عمّ.. يعطيك العافية".

رحت أخاطبه، مع أنني لا أحبّذ ذلك مع أمثاله، إذ التسوّل بالنسبة إلي مهنة لا بل تجارة كبيرة. وهؤلاء لا يستطيعون خداعي ببؤسهم. نظر إليّ مجدداً وابتسم ابتسامة أجمل. تحوّلت إشارة السير إلى اللون الأخضر، فانطلقتُ تاركة أثره عالقاً في المرآة.
كان عليّ أن أسلك هذا الطريق ذهاباً وإياباً على مدى خمسة أيام. في كلّ يوم، كنت أراه بالثياب نفسها، إنما مع كتاب مختلف. في اليوم الأخير، توقفت وقررت التحدّث إليه:
- مرحبا عمّ.. كيف حالك؟
- بخير الحمد لله (والبسمة في أحلى صورها)
- كم كتاباً تقرأ في الأسبوع؟
- "يصلني الكتاب بكتاب آخر، تماماً كما يصلنا الموت نوماً بالحياة عند اليقظة"
- وكم قرأت حتى هذا اليوم؟
- "عندما تعدّين الكتب التي تقرأينها، تفقدين الفوضى الجميلة التي أحدثتها سطورها. المتعة في القلب لا في الجسد. في هذه الكتب، قلوب كثيرة تنبض كل يوم بين أيدي قرّائها. أن أعدّ كتباً أقرأها يعني أن أستيقظ من غيبوبتها الجميلة وأدرك ملامحي، وهذا ما لا أريده. أريد أن أبقى في متاهة هذا الكون وفي سطور تطلق العنان لحريتي من دون قيود. أليست الحرية في المتاهات؟ عندما نعرف الطريق نفقد متعة البحث. عندما يخبر الحبيب حبيبته بموعد قدومه، تفقد لهفة المفاجأة. خذي هذا الكتاب. لا تستعجلي قراءته. الفائدة في مدى تشرّب ذاتك لحروفه، لا في الوقت التي تستهلكينه في قراءته".

لم تعد تعنيني معرفة سبب وجوده في هذا المكان ولا التناقض الغريب الذي لمسته. وضعت مبلغاً من المال في السلة أمامه، وتوجهت إلى سيارتي. عندما التفتّ صوبه، وجدته ينظر إليّ مبتسماً تلك الابتسامة الساحرة. من ثم عاد وتناول كتاباً آخر من كيس رث إلى جانبه.

اقرأ أيضاً: أحلم بميتة كوميديّة
دلالات
المساهمون