أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية اللبنانية بشكل رسمي عام 1990، لكنّ محاولات الحكومات المتعاقبة إنهاء ملف المفقودين والمخطوفين في الحرب عبر إصدار شهادات وفاتهم باءت بالفشل. ما زال أغلب الأهالي متمسكين بحقهم في معرفة مصير أبنائهم.
تحمل سوسن هرباوي صورة والدتها المتوفاة حديثاً في صالون منزلها في منطقة عين الرمانة قرب بيروت. ارتبطت ذكرى الحرب الأهلية (1975- 1990) باسم المنطقة، التي شهدت أولى المجازر والمآسي. انتزعت مليشيات شقيقها أحمد من السيارة التي كانت تقلّه ووالدته وكانت مارة في ساحة ساسين، الأشرفية، شرق بيروت في مارس/ آذار 1976، لتتغير حياة العائلة بكاملها.
خيّب التعاطي الرسمي مع الملف آمال الكثير من الأمهات. حاول النظام اللبناني الذي تشكل بعد الحرب بتخلي المليشيات اللبنانية عن سلاحها وتحولها إلى أحزاب مدنية مع منح عفو عام لكلّ مرتكبي الجرائم خلال سنوات الحرب، إنهاء الملف بقرار حكومي واحد قضى بـ"توفية (إصدار شهادة وفاة) كلّ مفقود مرّ على فقدانه أربع سنوات (القانون اللبناني ينص على مرور 10 سنوات) في ظروف يغلب عليها طابع الهلاك". وأجبرت ظروف حصر الإرث أو قبض تعويضات نهاية الخدمة وغيرها من الأمور المادية بعض الأسر على توفية أبنائها، فيما بقيت الأغلبية مصرة على حقها في كشف مصير نحو 17 ألف مخطوف، بحسب إحصاءات "لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان".
يتشابه المسار التاريخي لروايات أهالي المخطوفين. تبدأ القصة منذ لحظة الخطف على حاجز ثابت أو طيّار (متحرك)، أو من قلب المنزل. ثم تتفرع إلى قسمين: مأساة المخطوف الذي تنقّل من مركز احتجاز إلى آخر قبل اختفائه، ومأساة أهله الذين يبحثون عنه.
تراجع سوسن صور والدتها وهي تحمل العوائق الحديدية لقطع الطريق على مواكب رؤساء الوزراء والوزراء الذين تعاقبوا على الحكم خلال السنوات الأربعين الماضية: "لم يقتصر الأمر على العوائق الحديدية، فقد ضربت والدتي أحد رؤساء الحكومة بحذائها على وجهه عندما طلب إليها تقبل الواقع والقبول بقرار توفية شقيقي".
تدرجت صور الوالدة المحتجة بين الإطارات المشتعلة والمواكب الرسمية من صور الأبيض والأسود إلى الملون، من دون أن تنتهي قضيتها. حتى أنّ حفيدتها فوجئت بصورة جدتها على صفحة أحد الكتب المدرسية كنموذج لحركات الاحتجاج.
خُطف أحمد ابن الـ17 عاماً يومها في اللحظة التي ظن فيها أنّ جيرته وصداقته مع أحد المسلحين (من طائفة أخرى) المنتشرين على الحاجز في ساحة ساسين بالأشرفية ستحميه. شاهدت والدته سحبه من قبل "صديق العائلة الذي تبادل أطراف الحديث مع شقيقي قبل أن يشير إليه بيده إلى مجموعة من المسلحين. واختفى أحمد" بحسب سوسن.
تنقّلت الوالدة بين مركز "قوات الردع العربية" في منطقة المتحف، وبين ساحة الخطف. وتؤكد سوسن أنّ الوالدة التي عادت بعد فترة قصيرة إلى الساحة سمعت صوت ابنها في أحد الملاجئ التي يُحتجز فيها المخطوفون: "واجهت أمي الرئيس الحالي لأحد الأحزاب اللبنانية، وسألته عن صوت ابنها فضربها بالبندقية وشتمها". كان يومها مقاتلاً مليشياوياً فقط.
لا تطلب عائلة أحمد عقاباً للخاطف، بل كشف مصير ابنها الذي انتشرت صورة له ضمن عشرات المخطوفين الذين سلمّهم ذلك الحزب إلى الجيش الإسرائيلي عبر مرفأ جونية (شمالي بيروت)، كما تؤكد العائلة.
قبل سنوات، التقت أمهات مخطوفي المليشيات اللبنانية المختلفة والجيش السوري في منطقة المتحف التي فصلت عسكرياً بين البيروتين أيام الحرب. انطلقت من هناك "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان"، وترأستها السيدة وداد حلواني. تابعت حلواني خلال السنوات الأربعين الماضية مأساتها الشخصية التي تمثلت بزوجها المفقود ومأساة الأسر التي مثلتها في اللجنة. تتحدث حلواني عن مسارَي ضغط تعمل عليهما اللجنة لحلّ ملف المخطوفين: "الأول تشريعي يتمثل في إقرار مشروع القانون المقدم من قبل النائبين غسان مخيبر وزياد القادري، والذي يُعنى بتنظيم الشؤون القانونية للمخطوفين وذويهم، وينص على تشكيل اللجنة الوطنية المستقلة للمفقودين والمخطوفين". الثاني تنفيذي "مرتبط بعمل الحكومة التي لم تصادق بعد على اتفاقية التعاون مع الصليب الأحمر الدولي لجمع عينات الحمض النووي من الأهالي لحفظها حتى فتح المقابر الجماعية المكتشفة أو اكتشاف جثامين جديدة لمخطوفين".
بدوره، يقول المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان طارق وهيبي إنّ "اللجنة بالتعاون مع السلطات جمعت عينات الحمض النووي من عائلات 300 مفقود. وأنهت جمع بيانات متكاملة لـ2600 عائلة، وهو عمل سيستمر خلال الفترة المقبلة".
يؤكد وهيبي لـ"العربي الجديد" أنه "وبناءً على تجارب عديدة في حروب سابقة، كالحرب الإيرانية ـ العراقية وحروب البوسنة والهرسك وفترة الحكم العسكري في الأرجنتين، يشكل كشف مصير المفقودين عاملاً مهماً في تحقيق السلم الأهلي وتعزيز الوحدة الاجتماعية بين فئات الشعب".