قوتة قارون.. دراما الفقر في مصر

26 ابريل 2015
الفلاحون باتوا مهددين بالطرد من أراضيهم (Getty)
+ الخط -

لا تصل مياه الشرب النقيّة سكان قوتة قارون، البالغ عددهم نحو خمسة آلاف نسمة، سوى يومين في الأسبوع. صحيح أنه توجد في القرية مدرستان ابتدائيتان ومدرستان إعداديتان، كما تتوافر الكهرباء بما يمكن أهلها من مشاهدة الفضائيّات التلفزيونية واستخدام الإنترنت، لكن أقرب المدارس الثانوية تقع على بعد 30 كيلومتراً. كما يضطر الأهالي إلى قطع عشرة كيلومترات إضافيّة في وسائل مواصلات بائسةٍ ليحصلوا على الخدمات الصحيّة الضروريّة من المستشفى المركزي في "إبشواي".

"إبشواي"، هي المدينة ذاتها التي أصدرت محاكمها أخيراً، وفي غضون شهر واحد، عشرين حكماً ابتدائيّاً بحبس ثمانية فلّاحين فقراء في دعاوى سرقة محاصيل أراض يحوزونها ويزرعونها.

وكلُّها دعاوى رفعتها عائلة "والي"، ذات الماضي الإقطاعي والنفوذ في أجهزة الدولة، لإجبار65 أسرة على مغادرة وتسليم نحو150 فدّاناً من أراضي القرية (بواقع أقل من ثلاثة أفدنة للأسرة الواحدة). وكان هؤلاء الفلاحون الفقراء قد تمكَّنواعام 1966 من حيازتها في واحدة من آخر خطوات الإصلاح الزراعي، في زمن الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، لكن دون تملُكها ملكيّة قانونية كاملة بوثائق رسميّة.

وفي بلد كمصر، يعود تاريخ حيازة العائلات الإقطاعيّة لمساحات شاسعة من الأرض الزراعيّة وملكيتها أساساً إلى العلاقة مع السلطة والحاكم. ولقد دخل الصراع الاجتماعي حول الأرض مع عائلة "والي" في قوتة قارون مرحلةً جديدةً، مع التوسع في السياسات النيوليبرالية التي تكرّست مع إصدار القانون رقم 96 لسنة 1992. وينصّ هذا القانون على تحرير إيجارات الأراضي الزراعيّة وإخضاعها تماماً لعلاقات السوق والعرض والطلب.

وهكذا، تضاعف متوسط إيجار فدّان الأرض الزراعيّة 27 مرةً خلال 18 عاماً منذ تطبيق القانون عام 1997. وكان من آثار هذه السياسات في عموم البلادِ طرد نحو 900 ألف من فقراء الفلاحين المستأجرين من الأراضي التي يزرعونها ويقيمون عليها (31 في المئة ممّن كانوا يزرعون الأرض في مصر حينها، وفق الإحصاءات الرسمية لوزارة الزراعة)، وتشريدهم ودفعهم الى البطالة والبحث عن عمل بالمياومة في الزراعة والبناء. وهكذا أصاب الضررُ اقتصاديّاً واجتماعيّاً أسراً فقيرة يقدَّر تعدادها بـ5.3 ملايين نسمة.


تواطؤ السياسة والقانون والأمن
ولكن ثمّة دراما خاصّة ومفارقةً ما بشأن قرية قوتة قارون وقريناتها في الفيوم. وتتمثّل الدراما في أنَّ يوسف والي، أحد أعمدة عائلة "والي" الإقطاعيّة، كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيراً للزراعة وأميناً عاماً للحزب الحاكم (الوطني الديمقراطي)، ونائباً عن الحزب في البرلمان حين إصدار القانون وتطبيقه. وهكذا وقف من موقعه في الحكومة والحزب والبرلمان وراء قانون يستفيد هو وعائلته منه في صراعهم على الأرض مع الفقراء من الفلّاحين.

اقرأ أيضا:شاهندة مقلد... الثورة قصة حب

أما المفارقة، فهي أنّ تلك العائلة الاقطاعية، ذات النفوذ السياسي السلطوي، تمكّنتْ أيضاً من طرد فلّاحين في قوتة قارون وقرى مجاورة في الفيوم؛ لم يكن لعائلة والي عقود إيجار على الأرض، وبالتالي فإن القانون لا ينطبق على المساحات التي يحوزونها ويزرعونها من الأرض، كما لم يصدر أي حكم قضائي لصالح العائلة يسمح لها باستعادة هذه الأراضي.

صراع عيش
لقد جرى انتزاع الأرض من فلاحيها الفقراء مع تنفيذ القانون رقم 92 لسنة 1996 بحملات أمنيّة شملت مئات القرى في طول مصر وعرضها. ويقدِّر تقريرٌ لمركز "الأرض" في القاهرة الكلفة في الأرواح بين عاميّ 1997 و2003 بـ334 فلاحاً. سقط منهم مائة ضحيّة في العام الأول. ووفق شهادات الفلّاحين في قوتة قارون التي استمعْتُ إليها، فقد تكرّرت مداهمات قوات الأمن لأراضي وبيوت الفلاحين في القرية خلال عام 1997.

وجرت آنذاك عمليّات اعتقال وتعذيب في مركز شرطة "إبشواي" شملت الصعق بالكهرباء، بما في ذلك التعذيب الجماعي مع توصيلِ التيّار الكهربائي بأرضيَّة غرفة الاحتجاز بعد إغراقها بالمياه. ومات الفلاح إسماعيل علي خليل بعد هذا التعذيب فور عودتِه إلى منزله.

جاءت ثورة 25 يناير 2011 علامةً فارقةً في الصراع بقوتة قارون. فبعدما شاهد الفلاحون عبر شاشات الفضائيّات انهيار جهاز الشرطة في 28 يناير وتنحّي الرئيس مبارك نفسه في 11 فبراير/شباط، استعادوا الأرض. وأسّس صغار الفلاحين هؤلاء نقابتهم المستقلّة في القرية بحلول عام 2012، بعد طول حرمان من حق التنظيم النقابي. فبمقتضى قرارٍ من وزيرِ القوى العاملة صدر في مارس/ آذار 2011، تشكَّلت في أنحاء مصر نحوَ 350 نقابةٍ فلاحيّة على هذا النحو، وإنْ لم يضمَّها بعد اتحاد واحد.

وهكذا أصبح بإمكان الخمسة والستين فلاحاً وأسرهم الحائزين لمُلكيّاتٍ صغيرة في قوتة قارون أن يجدوا إطاراً تنظيميّاً جامعاً يتحدَّث باسمهم أمام السلطات في صراعهم مع عائلة "والي" حول الأرض. وبرز دور هذه النقابة بعدما استعادت العائلة أنفاسها وعادت لتحريض السلطات ضدَّ الفلّاحين واتهامهم بسرقة وإتلاف محاصيل زرعوها بأنفسهم. نظّمَت العديدَ من الوقفات الاحتجاجيّة أمام مكتب النائب العام.

اقرأ أيضا:وفاة أول مصري من مصابي تسمم المياه في الشرقية

وحصلت في عهد الرئيس مرسي على كميّاتٍ من السماد بأسعارٍ مخفَّضةٍ وزَّعتها على الفلّاحين. وقامت بمحاولةٍ وحيدةٍ للتسويق الجماعيّ لمحصوليْ الزيتون والكمثرى في عام 2012. لكنَّ عهد مرسي نفسه شهد أيضاً حبس الفلاح محمد جنيدي شهراً واحداً في مطلع عام 2013 بتهمة سرقة محاصيل أرض يزرعها. وبالأصل فإن مواقف الإخوان المسلمين كانت معارِضة لقانون الإصلاح الزراعيّ منذ الخمسينيّات ومتهاونةً مع قانون العلاقات الإيجاريّة الجديد في التسعينيّات.

يوليو 2013
لكنّ الأمور أصبحت أكثر صعوبة للفلاحين الفقراء بعد 3 يوليو/تموز 2013. ففي ظل استعادة نظام مبارك لسطوته وعودة الانتهاكات الأمنيّة لحقوق المواطنين تحت عناوين هيبة الدولة والحرب على الإرهاب وملاحقة الإخوان، صعَّدت عائلة والي من ضغوطها على فلاحي قوتة قارون لانتزاع الأرض. بل أخذت تحرّض عليهم بادّعاءِ مشاركتهم في اعتصام رابعة العدويّة وموالاة الإخوان. وأسفرت هذه الضغوط إلى حينِه عن دفع ستة فلّاحين للتوقيع على عقود بالتنازل عن الحيازة، فضلاً عن حبس الفلّاح أحمد محمد عيسي في شهر مارس/آذار الماضي متّهماً بسرقة محصولٍ زرعه على أرضٍ يحوزها.

وبلا شكٍّ فإنَّ توالي أحكام الحبس أخيراً ضد فلاحي قوتة قارون على النحو الذي أشرنا إليه في بداية هذا المقال، يفيد بارتفاع ملحوظ في مستويات تحريض أجهزة الدولة على فقراء الفلاحين، وتلفيق القضايا. لكن ما يجرى حالياً ليس إلا صفحةً من تاريخ صراعٍ اجتماعيٍّ ممتدٍّ في ريف مصر وقراها؛ صراعٌ تتأثَّر مجرياته حتماً بالتحولات في قمة السلطة بالقاهرة، وإن كان إعلام وصحف العاصمة لا يكترثان كثيراً به.
دلالات
المساهمون