كما تخيّلتها وأكثر

29 نوفمبر 2016
ترقص من دون أنغام (رسم فؤاد هاشم)
+ الخط -
أنعزل عن العالم الخارجي وأرفع صوت الموسيقى. أفرّغ الغرفة من جميع العوائق. أبعثر أدواتي: علب الألوان، الماء، فراشي الرسم، وبعض الأقلام والأوراق المخططة. أتحرّر من ملابسي اليومية وأدور حول اللوحة البيضاء التي وضعتها على الأرض قبل أن أذهب إلى كل تلك الطقوس التي ذكرتها. وبعد ذلك، أبدّل الموسيقى مرات عدة، لأنها لم تُدخلني بعد في الأجواء المفترضة للرسم.

أعود إلى اللوحة الفارغة. للحقيقة، أعرف ماذا أريد أن أرسم وأي ألوان سأستخدم. لكن الذي لا أعرفه، حتى اللحظة، من أين عليّ أن أبدأ. كأنها أول مرة أغوص فيها في الرسم. أجلس على الكنبة وأفتح كتاباً، أقرأ بضع صفحات قبل أن أغلقه لأدير التلفزيون. أجول بين عدة قنوات، لكن من دون جدوى. الموسيقى لم تنقطع. أعود مجدداً إلى اللوحة. أبدأ بتكوين سطحها بألوان باهتة، لتخرج تدريجياً من برودة لونها الأبيض.

كنت أشعر أنني كمن يزرع أرضاً جرداء ويسقيها بالألوان جرعة تلو أخرى، كي تكتسب لونها فتتحوّل إلى واحة من الأشكال والألوان، تُدخل أنغام الموسيقى إلى جميع حواسي. أدندن معها، وأضيف إليها بعض الكلمات، وأحياناً أقود الأوركسترا بفرشاتي الغارقة بالألوان المختلفة.

أرقص حول لوحتي التي بدأت تتسلل، هي الأخرى، إلى عزلتي التي بدأتها مع البياض الممل. مساحات من الألوان، وشخوص متباعدة على سطحها ترقص معي بصمت.

أبتعد قليلاً عنها. أتأملها. أجول في تفاصيلها لأبحث عما ينقصها من لمسات. أدغدغها فتبتسم. أتركها وأنسحب لأنام، فأحسّ بإرهاق جميل. أشعل سيجارتي الأخيرة لهذه الليلة. أنفث دخانها في فضاء الغرفة وأحلم بأشياء كثيرة. أشياء لا علاقة لها بالرسم والألوان.

أستيقظ في الصباح التالي وهي بالقرب مني، ممددة في وسط الغرفة كما تركتها. ترقص بصمت من دون أنغام. أصنع قهوتي الإيطالية وأرتشفها ببطء بعيداً عنها. أدخن سيجارة اليوم الجديد قبل أن أعود إليها. أبحث عن أشياء تنقص في تكوينها، أعدّل بعض الخطوط من هنا، وأضيف القليل من اللون هناك. هكذا أخفي ما أعتبره خطأ في أطرافها.

أدخل المطبخ لأمارس طقوساً تختلف كلياً عن طقوس الرسم. كل شيء في مكانه مثلما تركته في المرة الأخيرة. أحضّر فطور الصباح، وأتناوله بالقرب منها. ألملم كل الأدوات لأعيد الغرفة إلى شكلها التقليدي، وقبل أن أنهي ما بدأته، أعلّق اللوحة على الحائط، وأتركها هناك عدة أيام وحيدة، كي تأخذ شكلها النهائي.. في مخيلتي.

أعود إليها بعد فترة لأضع عليها بعض اللمسات الأخيرة، وأخبرها بفرح، أنها أصبحت، كما تخيّلتها وأكثر.

دلالات
المساهمون