قصص مؤلمة يخفيها غرق القارب في قرقنة، جنوب تونس، تبدأ من الأوضاع الصعبة التي يعيشها المهاجرون وتمرّ بظروف الهجرة الصعبة والاستغلال الذي يتعرضون له، ولا تنتهي بغرقهم ونجاة بعضهم بأعجوبة
خمس وسبعون جثة حتى الآن جرى انتشالها من البحر الأبيض المتوسط قبالة الشواطئ التونسية. الرقم قابل للارتفاع بمرور الأيام وتكثيف عمليات البحث، فالناجون من قارب الموت الذي كان يقل ما بين 180 شخصاً و200 من الحالمين بالوصول إلى أوروبا لم يتجاوزوا 68 مهاجراً.
أكثر من عشرين شاباً أفريقياً دفنوا في مدينة صفاقس، في أرض بعيدة عن أرضهم حيث لا أهل لزيارتهم ولا شواهد لقبورهم. وفي انتظار اكتمال المأساة ويعرف التونسيون كم واحد من أبنائهم سيودعون، بدأت بعض المدن تشيّع قتلاها وتواريهم في التراب، مع أحلامهم وأوهامهم وذكرياتهم وآهات أمهاتهم. كان نصيب مدينة الحامة الجنوبية الأكبر والأقسى على صدور الأمهات، فقد تبخر 13 حلماً على يد سماسرة الموت وسياسيي الفشل ونخبة تسجيل النقاط.
إغراق متعمد
وسط عويل البيوت المفجوعة في فلذات أكبادها، ما زالت عائلة حسام تحاول أن تستوعب ما حصل، وكيف نجا بحياته وسط كلّ هذا الغرق والحزن. تروي شقيقته ثريا لـ"العربي الجديد" ما حدّثها به من هول تلك الليلة، فهو ما زال منهكاً وحزيناً ومصدوماً، لا يأكل ولا ينام. "كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلاً عندما أوصلهم الوسيط بقوارب صغيرة طولها 9 أمتار إلى وسط البحر. هناك كان قارب أكبر بطابقين يتسع لـ40 شخصاً في انتظارهم، كانوا يعتقدون أنّ الحمولة لن تفوق هذا العدد بحسب اتفاقهم المسبق مع الوسيط، لكن عندما وصلوا فوجئوا بالعدد الكبير من المهاجرين. كانوا شباناً ونساء وأطفالاً، طلبوا من الوسيط إرجاعهم الى اليابسة فهدد بإلقائهم في عرض البحر شاهراً سيفاً في وجوههم. كان فظاً غليظ الطباع، ومنذ صعودهم إلى القارب كانت الحمولة تنذر بكارثة وشيكة. بدأ القارب يتمايل والمياه تتسرب إليه ثم تعطلت المروحة فطلب منهم الربان إبعاد المياه لكنّهم أصرّوا عليه في العودة بهم، فأجرى مكالمة هاتفية وطلب من الوسيط أن يعود بالشباب إلى اليابسة وأن يجهز السيارات التي ستقلهم إلى البيت مجدداً، لكن يبدو أنّه تلقى أمراً بتركهم في عرض البحر أي أن يلقي بهم إلى الموت أو المصير المجهول، فزاد من السرعة وكان يدور يميناً ويساراً بالقارب بهدف إغراقه. تفطّن بعض العارفين بالبحر أنّ مكيدة دبرت لهم. سارع الربان إلى القفز في البحر قبل ثوانٍ من غرق القارب وكان يرتدي سترة نجاة ثم سرعان ما اختفى عن الأنظار" مثلما تروي ثريا.
تضيف أنّهم لم يصدقوا حتى الآن نجاة شقيقها حسام فقد كتب له عمر جديد. وقد أخبرها شقيقها عن فظائع حصلت لهم في عرض البحر قبل مغادرتهم اليابسة، مشيرة إلى أنّ ما رواه قد يكشف اللثام قليلاً عن بعض خيوط المأساة.
يعاني حسام الكدري، شقيق ثريا، حالياً من صدمة نفسية بعدما رأى جثث أصدقائه وأبناء حيه تطفو وتغرق في مياه البحر ومنهم صديقه أنيس الذي ظل متشبثاً بيده. اختبر رائحة الموت تحيط به في كلّ مكان، والمشهد كان فظيعاً: صراخ الغرقى وسقوطهم من القارب، والغرق وسط الظلام والبرد. وحده القدر ألقى بحسام قريباً من مؤخرة القارب ومن لوح خشبي تمسّك به، فسبح الى أن أنهكه التعب وقضى ساعات من السباحة. خاض صراعاً من أجل البقاء بينما الأمواج تتقاذفه من مكان إلى آخر، إلى أن لاح له بصيص نور متمثل في لوح خشبي كبير، فوقه 24 شخصاً، تشبث معهم وظلوا يحاولون التجديف. من بينهم من أنهكه التعب فاستسلم وسقط في أعماق الماء، وهناك من قاوم لكنّه يئس من وصول النجدة فغرق أيضاً. ومن بين هذا العدد نجا فقط 9 أشخاص كان حسام من بينهم.
اقــرأ أيضاً
نجدة متأخرة
أغمض الشاب جفنيه ونطق الشهادة طالباً من أمه أن تسامحه. تعب في لحظة ما ولم يعد قادراً على الصمود أكثر. ظن أصدقاؤه أنّه فارق الحياة وتساءلوا كيف سيخبرون والدته بموته، لقد ظلوا من العاشرة ليلاً إلى الرابعة فجراً في المياه ولم تصلهم أيّ مساعدات. وصل أحد الصيادين إلى مكان الحادثة وكان قاربه صغيراً جداً ولم يجد أمامه أيّ حل سوى إلقاء بعض الصناديق لمن بقي حياً ليتشبث بها، وظل يصرخ عبر جهازه طالباً من السلطات البحرية النجدة، فوصلت إليهم أولى فرق الإنقاذ في حدود السادسة صباحاً. ساعتها صرخ أصدقاء حسام ليخبروه أنّهم وصلوا إلى اليابسة، لم يكن يعي أيّ شيء.
بالعودة إلى ثريا، تقول إنّهم 5 أشقاء متخرجون ولديهم شهادات جامعية، لكنّهم يعانون كغيرهم من شباب المنطقة من البطالة، مبينة أنّ شقيقها حسام جهز وثائقه للسفر بطريقة قانونية لكنّه انتظر 5 أشهر ليحصل على جواز سفره، وأمام المماطلات التي وجدها من قبل أجهزة الأمن يئس وقرر السفر بطريقة غير قانونية، أي ضمن قوارب الموت، فركب مع من كانوا في قارب قرقنة الغارق. تشير إلى أنّ المخططين لرحلة الموت عصابات ومافيات خططت بإحكام لجريمتها فقد عملت منذ أشهر على استقطاب الشباب من محافظات عديدة، وبعض أفراد هذه العصابات جاء خصيصاً من قرقنة إلى حامة قابس وكانوا يطوفون المقاهي لاستمالة الشباب اليائسين، فقدموا لهم وعوداً كاذبة، إذ إنّ الهدف الوحيد لهؤلاء جمع المال وتقديم الشباب قرباناً لطمعهم.
تؤكد ثريا أنّ شقيقها أخفى عنهم حقيقة هجرته السرية، وأخبرهم أنّه ينوي العمل في محافظة مدنين، لكنّهم يوم الحادثة صادفوا صورته على مواقع التواصل الاجتماعي كأحد المفقودين. عندها فقط عرفوا أنّه كان ضمن القارب الذي غرق في قرقنة، وكان وقع الصدمة كبيراً بالنسبة إليهم، مشيرة إلى أنّهم توقعوا موته مباشرة خصوصاً أنّه لا يحسن السباحة. تضيف ثريا أنّه بحسب ما روى شقيقها فإنّ معاناتهم انطلقت قبل الرحلة إذ طلب منهم الوسيط دفع 400 دينار لإيصالهم إلى قرقنة، ثم وضعهم ليلة الحادثة في بيت صغير قريب من البحر يتكون من غرفتين، وضعوا فيه مع جميع المهاجرين الأفارقة والمغاربة، وفيهم مدمنون، وأصحاب سوابق عدلية، ونساء حوامل، وأطفال بعمر 12 عاماً و13. كانت الظروف غير مشجعة حتى أنّ شقيقها أراد المغادرة لكنّ الوسيط منعه قائلاً: "من يأت إلى هنا فلا يغادر" حتى أنّه استولى على هواتفهم الجوالة، وكان الطعام رديئاً بالرغم من دفع كلّ واحد منهم ما بين 3 آلاف و4 آلاف دينار.
تقول ثريا إنّ أشخاصا يضعون أقنعة كانوا يتفقدون الشباب في الغرفة، إلى أن نقلوا إلى القوارب عند السابعة مساء في شاحنات نقل سمك، حيث كانت التهوئة سيئة والروائح كريهة وكانوا محشورين فيها إلى أن وصلوا إلى قوارب صغيرة كانت راسية على الشاطئ تولت نقلهم إلى وسط البحر.
كارثة شعبية
من جهته، يروي رضا الهداجي، خال أحد ضحايا قارب قرقنة (إبراهيم الهداجي، البالغ من العمر 25 عاماً، وكان عاملاً يومياً) أنّ الشاب الراحل كان يعمل في ليبيا، لكن بسبب الأوضاع المضطربة هناك عاد إلى تونس. يضيف أنّ ما حصل جريمة مدبرة وليست مجرد حادثة: "لو مات أبناؤنا ميتة طبيعية لتقبلنا الأمر، لكنّ ما حصل جريمة مخطط لها مسبقاً، ومنظمو الهجرة كانوا يعرفون مسبقاً أنّ القارب لن يصل، فهو نفسه غادر في محاولة للعبور خلسة قبل أسبوع من الحادثة وعاد إلى اليابسة لأنّ وضعه سيئ". يتابع أنّهم لن يرتاحوا إلى أن يجدوا آخر مفقود، خصوصاً أنّ العدد مرشح للارتفاع، فبعض الأهالي لا يعرفون بعد أنّ أبناءهم كانوا على ذلك القارب إذ إنّهم يعملون في محافظات بعيدة عن أهلهم. يضيف أنّ المسؤولية يتحملها الجناة والمتورطون معهم من الأمنيين، فهو يعرف أنّ أهالي قرقنة لا ذنب لهم في ما حصل بل المسؤولية تشمل من دبر وخطط لها. ويقول إنّ الهدف كان إلهاء الجيش والحرس البحري للتغطية على هجرة أخرى.
يشير الهداجي إلى أنّ هناك ما لا يقل عن 7 شباب من الحامة نجوا وتحدث إلى 4 منهم، جميعهم أكدوا الرواية نفسها أنّ عملية إغراق القارب مقصودة، ففي اللحظات الأخيرة خفّض الوسيط مبلغ الهجرة إلى ألف دينار لجمع أكبر قدر من الشباب. يلفت إلى أنّ العائلات قضت أياماً في الحديقة العمومية أمام مستشفى صفاقس فالأهالي ساعدوهم، وهناك من الأمنيين من بكى تأثراً بمأساة الأهالي، مضيفاً أنّ الكارثة شعبية وليست وطنية، فالشعب في وادٍ والسلطة في وادٍ آخر.
هرباً من الفقر
رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية بالبرلمان التونسي، سهيل العلويني، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ ما جعل شباناً عاطلين من العمل يغامرون بحياتهم ويلقون بأنفسهم في عرض البحر هو فقدان الأمل في إيجاد فرص للعمل التي تضمن الحياة الكريمة، وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة القادرة على تأمين فرص العمل تلك. يشير إلى أنّ كلّ مسؤول من موقعه يتحمل المسؤولية في الفاجعة التي أودت بحياة عشرات الشباب: "عِوضاً عن الخوض في حلول تجاوز هذه المصائب، تعيش الطبقة السياسية هذه الأيام في مهاترات الصراع على الكراسي والمناصب ومن يحكم". يتابع العلويني أنّ من بين أسباب تفشي ظاهرة الهجرة السرية، تفاقم الأزمة الاجتماعية وتردي الوضع الاقتصادي وتغلغل الإحباط واليأس في نفوس الشباب والأطفال والكهول، ما يدفعهم إلى تفضيل الموت غرقاً على انتظار المجهول.
اقــرأ أيضاً
بدوره، يلفت، رئيس لجنة التنمية بالبرلمان التونسي، لخضر بلهواشات، في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أنّ الضحايا ينتمون أساساً إلى محافظات الجنوب الشرقي تطاوين ومدنين وقابس وغيرها من المحافظات التي تعيش على وقع مشاكل اجتماعية حقيقية بسبب الفقر والتهميش والبطالة والتفاوت الجهوي وتردي الأوضاع، مع غياب للمرافق الصحية والحياتية والترفيهية. وقد بلغ اليأس بالشباب حدود المجازفة في رحلة الموت لتغيير واقعهم، بحثاً عن مستقبل أفضل، وعن العيش الكريم خارج حدود البلاد. يؤكد أنّ الأطراف السياسية كلّها تتحمل مسؤولية بث خطاب اليأس والتفكك والخلافات والصراعات، كما يجدر الوقوف عند الفراغ والتقصير الأمني في الكشف المبكر عن شبكة التسفير غير الشرعي نظراً إلى العدد الكبير من المهاجرين، كما يقول.
خمس وسبعون جثة حتى الآن جرى انتشالها من البحر الأبيض المتوسط قبالة الشواطئ التونسية. الرقم قابل للارتفاع بمرور الأيام وتكثيف عمليات البحث، فالناجون من قارب الموت الذي كان يقل ما بين 180 شخصاً و200 من الحالمين بالوصول إلى أوروبا لم يتجاوزوا 68 مهاجراً.
أكثر من عشرين شاباً أفريقياً دفنوا في مدينة صفاقس، في أرض بعيدة عن أرضهم حيث لا أهل لزيارتهم ولا شواهد لقبورهم. وفي انتظار اكتمال المأساة ويعرف التونسيون كم واحد من أبنائهم سيودعون، بدأت بعض المدن تشيّع قتلاها وتواريهم في التراب، مع أحلامهم وأوهامهم وذكرياتهم وآهات أمهاتهم. كان نصيب مدينة الحامة الجنوبية الأكبر والأقسى على صدور الأمهات، فقد تبخر 13 حلماً على يد سماسرة الموت وسياسيي الفشل ونخبة تسجيل النقاط.
إغراق متعمد
وسط عويل البيوت المفجوعة في فلذات أكبادها، ما زالت عائلة حسام تحاول أن تستوعب ما حصل، وكيف نجا بحياته وسط كلّ هذا الغرق والحزن. تروي شقيقته ثريا لـ"العربي الجديد" ما حدّثها به من هول تلك الليلة، فهو ما زال منهكاً وحزيناً ومصدوماً، لا يأكل ولا ينام. "كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلاً عندما أوصلهم الوسيط بقوارب صغيرة طولها 9 أمتار إلى وسط البحر. هناك كان قارب أكبر بطابقين يتسع لـ40 شخصاً في انتظارهم، كانوا يعتقدون أنّ الحمولة لن تفوق هذا العدد بحسب اتفاقهم المسبق مع الوسيط، لكن عندما وصلوا فوجئوا بالعدد الكبير من المهاجرين. كانوا شباناً ونساء وأطفالاً، طلبوا من الوسيط إرجاعهم الى اليابسة فهدد بإلقائهم في عرض البحر شاهراً سيفاً في وجوههم. كان فظاً غليظ الطباع، ومنذ صعودهم إلى القارب كانت الحمولة تنذر بكارثة وشيكة. بدأ القارب يتمايل والمياه تتسرب إليه ثم تعطلت المروحة فطلب منهم الربان إبعاد المياه لكنّهم أصرّوا عليه في العودة بهم، فأجرى مكالمة هاتفية وطلب من الوسيط أن يعود بالشباب إلى اليابسة وأن يجهز السيارات التي ستقلهم إلى البيت مجدداً، لكن يبدو أنّه تلقى أمراً بتركهم في عرض البحر أي أن يلقي بهم إلى الموت أو المصير المجهول، فزاد من السرعة وكان يدور يميناً ويساراً بالقارب بهدف إغراقه. تفطّن بعض العارفين بالبحر أنّ مكيدة دبرت لهم. سارع الربان إلى القفز في البحر قبل ثوانٍ من غرق القارب وكان يرتدي سترة نجاة ثم سرعان ما اختفى عن الأنظار" مثلما تروي ثريا.
تضيف أنّهم لم يصدقوا حتى الآن نجاة شقيقها حسام فقد كتب له عمر جديد. وقد أخبرها شقيقها عن فظائع حصلت لهم في عرض البحر قبل مغادرتهم اليابسة، مشيرة إلى أنّ ما رواه قد يكشف اللثام قليلاً عن بعض خيوط المأساة.
يعاني حسام الكدري، شقيق ثريا، حالياً من صدمة نفسية بعدما رأى جثث أصدقائه وأبناء حيه تطفو وتغرق في مياه البحر ومنهم صديقه أنيس الذي ظل متشبثاً بيده. اختبر رائحة الموت تحيط به في كلّ مكان، والمشهد كان فظيعاً: صراخ الغرقى وسقوطهم من القارب، والغرق وسط الظلام والبرد. وحده القدر ألقى بحسام قريباً من مؤخرة القارب ومن لوح خشبي تمسّك به، فسبح الى أن أنهكه التعب وقضى ساعات من السباحة. خاض صراعاً من أجل البقاء بينما الأمواج تتقاذفه من مكان إلى آخر، إلى أن لاح له بصيص نور متمثل في لوح خشبي كبير، فوقه 24 شخصاً، تشبث معهم وظلوا يحاولون التجديف. من بينهم من أنهكه التعب فاستسلم وسقط في أعماق الماء، وهناك من قاوم لكنّه يئس من وصول النجدة فغرق أيضاً. ومن بين هذا العدد نجا فقط 9 أشخاص كان حسام من بينهم.
نجدة متأخرة
أغمض الشاب جفنيه ونطق الشهادة طالباً من أمه أن تسامحه. تعب في لحظة ما ولم يعد قادراً على الصمود أكثر. ظن أصدقاؤه أنّه فارق الحياة وتساءلوا كيف سيخبرون والدته بموته، لقد ظلوا من العاشرة ليلاً إلى الرابعة فجراً في المياه ولم تصلهم أيّ مساعدات. وصل أحد الصيادين إلى مكان الحادثة وكان قاربه صغيراً جداً ولم يجد أمامه أيّ حل سوى إلقاء بعض الصناديق لمن بقي حياً ليتشبث بها، وظل يصرخ عبر جهازه طالباً من السلطات البحرية النجدة، فوصلت إليهم أولى فرق الإنقاذ في حدود السادسة صباحاً. ساعتها صرخ أصدقاء حسام ليخبروه أنّهم وصلوا إلى اليابسة، لم يكن يعي أيّ شيء.
بالعودة إلى ثريا، تقول إنّهم 5 أشقاء متخرجون ولديهم شهادات جامعية، لكنّهم يعانون كغيرهم من شباب المنطقة من البطالة، مبينة أنّ شقيقها حسام جهز وثائقه للسفر بطريقة قانونية لكنّه انتظر 5 أشهر ليحصل على جواز سفره، وأمام المماطلات التي وجدها من قبل أجهزة الأمن يئس وقرر السفر بطريقة غير قانونية، أي ضمن قوارب الموت، فركب مع من كانوا في قارب قرقنة الغارق. تشير إلى أنّ المخططين لرحلة الموت عصابات ومافيات خططت بإحكام لجريمتها فقد عملت منذ أشهر على استقطاب الشباب من محافظات عديدة، وبعض أفراد هذه العصابات جاء خصيصاً من قرقنة إلى حامة قابس وكانوا يطوفون المقاهي لاستمالة الشباب اليائسين، فقدموا لهم وعوداً كاذبة، إذ إنّ الهدف الوحيد لهؤلاء جمع المال وتقديم الشباب قرباناً لطمعهم.
تؤكد ثريا أنّ شقيقها أخفى عنهم حقيقة هجرته السرية، وأخبرهم أنّه ينوي العمل في محافظة مدنين، لكنّهم يوم الحادثة صادفوا صورته على مواقع التواصل الاجتماعي كأحد المفقودين. عندها فقط عرفوا أنّه كان ضمن القارب الذي غرق في قرقنة، وكان وقع الصدمة كبيراً بالنسبة إليهم، مشيرة إلى أنّهم توقعوا موته مباشرة خصوصاً أنّه لا يحسن السباحة. تضيف ثريا أنّه بحسب ما روى شقيقها فإنّ معاناتهم انطلقت قبل الرحلة إذ طلب منهم الوسيط دفع 400 دينار لإيصالهم إلى قرقنة، ثم وضعهم ليلة الحادثة في بيت صغير قريب من البحر يتكون من غرفتين، وضعوا فيه مع جميع المهاجرين الأفارقة والمغاربة، وفيهم مدمنون، وأصحاب سوابق عدلية، ونساء حوامل، وأطفال بعمر 12 عاماً و13. كانت الظروف غير مشجعة حتى أنّ شقيقها أراد المغادرة لكنّ الوسيط منعه قائلاً: "من يأت إلى هنا فلا يغادر" حتى أنّه استولى على هواتفهم الجوالة، وكان الطعام رديئاً بالرغم من دفع كلّ واحد منهم ما بين 3 آلاف و4 آلاف دينار.
تقول ثريا إنّ أشخاصا يضعون أقنعة كانوا يتفقدون الشباب في الغرفة، إلى أن نقلوا إلى القوارب عند السابعة مساء في شاحنات نقل سمك، حيث كانت التهوئة سيئة والروائح كريهة وكانوا محشورين فيها إلى أن وصلوا إلى قوارب صغيرة كانت راسية على الشاطئ تولت نقلهم إلى وسط البحر.
كارثة شعبية
من جهته، يروي رضا الهداجي، خال أحد ضحايا قارب قرقنة (إبراهيم الهداجي، البالغ من العمر 25 عاماً، وكان عاملاً يومياً) أنّ الشاب الراحل كان يعمل في ليبيا، لكن بسبب الأوضاع المضطربة هناك عاد إلى تونس. يضيف أنّ ما حصل جريمة مدبرة وليست مجرد حادثة: "لو مات أبناؤنا ميتة طبيعية لتقبلنا الأمر، لكنّ ما حصل جريمة مخطط لها مسبقاً، ومنظمو الهجرة كانوا يعرفون مسبقاً أنّ القارب لن يصل، فهو نفسه غادر في محاولة للعبور خلسة قبل أسبوع من الحادثة وعاد إلى اليابسة لأنّ وضعه سيئ". يتابع أنّهم لن يرتاحوا إلى أن يجدوا آخر مفقود، خصوصاً أنّ العدد مرشح للارتفاع، فبعض الأهالي لا يعرفون بعد أنّ أبناءهم كانوا على ذلك القارب إذ إنّهم يعملون في محافظات بعيدة عن أهلهم. يضيف أنّ المسؤولية يتحملها الجناة والمتورطون معهم من الأمنيين، فهو يعرف أنّ أهالي قرقنة لا ذنب لهم في ما حصل بل المسؤولية تشمل من دبر وخطط لها. ويقول إنّ الهدف كان إلهاء الجيش والحرس البحري للتغطية على هجرة أخرى.
يشير الهداجي إلى أنّ هناك ما لا يقل عن 7 شباب من الحامة نجوا وتحدث إلى 4 منهم، جميعهم أكدوا الرواية نفسها أنّ عملية إغراق القارب مقصودة، ففي اللحظات الأخيرة خفّض الوسيط مبلغ الهجرة إلى ألف دينار لجمع أكبر قدر من الشباب. يلفت إلى أنّ العائلات قضت أياماً في الحديقة العمومية أمام مستشفى صفاقس فالأهالي ساعدوهم، وهناك من الأمنيين من بكى تأثراً بمأساة الأهالي، مضيفاً أنّ الكارثة شعبية وليست وطنية، فالشعب في وادٍ والسلطة في وادٍ آخر.
هرباً من الفقر
رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية بالبرلمان التونسي، سهيل العلويني، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ ما جعل شباناً عاطلين من العمل يغامرون بحياتهم ويلقون بأنفسهم في عرض البحر هو فقدان الأمل في إيجاد فرص للعمل التي تضمن الحياة الكريمة، وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة القادرة على تأمين فرص العمل تلك. يشير إلى أنّ كلّ مسؤول من موقعه يتحمل المسؤولية في الفاجعة التي أودت بحياة عشرات الشباب: "عِوضاً عن الخوض في حلول تجاوز هذه المصائب، تعيش الطبقة السياسية هذه الأيام في مهاترات الصراع على الكراسي والمناصب ومن يحكم". يتابع العلويني أنّ من بين أسباب تفشي ظاهرة الهجرة السرية، تفاقم الأزمة الاجتماعية وتردي الوضع الاقتصادي وتغلغل الإحباط واليأس في نفوس الشباب والأطفال والكهول، ما يدفعهم إلى تفضيل الموت غرقاً على انتظار المجهول.
بدوره، يلفت، رئيس لجنة التنمية بالبرلمان التونسي، لخضر بلهواشات، في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أنّ الضحايا ينتمون أساساً إلى محافظات الجنوب الشرقي تطاوين ومدنين وقابس وغيرها من المحافظات التي تعيش على وقع مشاكل اجتماعية حقيقية بسبب الفقر والتهميش والبطالة والتفاوت الجهوي وتردي الأوضاع، مع غياب للمرافق الصحية والحياتية والترفيهية. وقد بلغ اليأس بالشباب حدود المجازفة في رحلة الموت لتغيير واقعهم، بحثاً عن مستقبل أفضل، وعن العيش الكريم خارج حدود البلاد. يؤكد أنّ الأطراف السياسية كلّها تتحمل مسؤولية بث خطاب اليأس والتفكك والخلافات والصراعات، كما يجدر الوقوف عند الفراغ والتقصير الأمني في الكشف المبكر عن شبكة التسفير غير الشرعي نظراً إلى العدد الكبير من المهاجرين، كما يقول.