الآن وقد هدأت ردود الفعل العنيفة على مقال يحيى حامد، وزير الاستثمار المصري في عهد حكومة هشام قنديل، الذي نشره قبل أيام في مجلة "فورن بوليسي" الأميركية الشهيرة، وتوصل فيه إلى نتيجتين خطيرتين هما أن مصر على وشك الإفلاس، وأن الاقتصاد المصري على وشك الانهيار.
هنا وعقب هدوء العاصفة يمكن مناقشة ما قاله حامد وخلص إليه بهدوء وبعيداً عن المبالغة في التقديرات والأرقام، وعن حالة التشنج وأسلوب الردح وكيد النساء الذي سلكه البعض في الرد على مقال الوزير السابق، وبعيدا أيضا عن الانتماءات السياسية التي يجب أن تتنحى جانباً عند مناقشة مثل هذه الأمور الاقتصادية الخطيرة.
دعونا بداية نعيد طرح هذا السؤال: هل مصر على وشك الإفلاس، وهل الاقتصاد المصري على وشك الانهيار كما خلص حامد في مقاله المثير؟ وهل الأرقام الحالية يمكن أن تقود حتماً إلى الإفلاس؟
الأسئلة جد خطير خاصة إذا ما استعادت الذاكرة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي عاشتها بعض الدول ومواطنيها عقب الإعلان عن إفلاسها.
الإجابة عن الأسئلة من وجهة نظري هي بالنفي، فمؤشرات الإفلاس لا تنطبق على مصر حالياً لأسباب كثيرة، منها مثلا ما هو اقتصادي بحت، ومنها ما هو سياسي ويتعلق باستمرار الدعم الدولي والإقليمي للاقتصاد المصري خاصة من قبل دول الخليج.
صحيح أن المنح والمساعدات الخليجية توقفت منذ شهر مارس 2015، لكن في المقابل فإن السعودية والإمارات والكويت تواصل منح القروض للحكومة المصرية، وقد وافقت الدول الثلاث على تأجيل سداد ديون مستحقة لها على مصر بقيمة تصل إلى 10 مليارات دولار.
إقليميا أيضا لا تزال مؤسسات مالية كبرى تواصل ضخ قروض ضخمة في الاقتصاد المصري ومشاريعه، ومن بين هذه المؤسسات البنك الإسلامي للتنمية الذي تسيطر السعودية على إدارته، والبنك الأفريقي للتنمية والبنك الأفريقي للتصدير والاستيراد وصندوق النقد العربي وبرنامج تمويل التجارة العربية بأبوظبي وغيرها.
السعودية وحل أزمة الوقود
ولا ننسى هنا القرض الضخم الذي قررت الحكومة السعودية تقديمه لمصر في شهر ابريل 2016 وبقيمة 23 مليار دولار ولمدة 5 سنوات، وكيف لعب هذا القرض دورا مهما في حل أزمة الوقود في مصر، فحسب الاتفاق بين البلدين، فإن شركة أرامكو السعودية توفر لمصر 700 ألف طن شهريا لمدة خمس سنوات من المواد البترولية بواقع 400 ألف طن سولار و200 ألف طن بنزين و100 ألف طن مازوت شهريا، وهذه الكميات تعادل 50% من احتياجات مصر البترولية.
عالميا، فإن العديد من الدول والمؤسسات المالية ومنها صندوق النقد والبنك الدوليين تفتح أسواقها وخزائنها لمصر لاغتراف ما تشاء منها من قروض وبأسعار فائدة عالية، خذ مثلا الدعم المالي المقدم من الولايات المتحدة والصين وألمانيا واليابان وغيرها، وحصيلة كل ذلك اقتراض مصر نحو 50 مليار دولار في غضون 5 سنوات، وهو مبلغ ضخم جدا مقارنة بقدرات وتدفقات الاقتصاد المصري.
هذا الدعم الدولي والإقليمي يؤجل دخول الاقتصاد المصري في حالة حرجة بسبب السيولة المتدفقة على البلاد من القروض الخارجية وحصيلة السندات الدولارية والأوروبية وغيرها، إضافة إلى تدفقات الأموال الساخنة على مصر والاستثمارات الأجنبية الضخمة في أدوات الدين المصرية مثل أذون الخزانة والسندات.
التزام في السداد
أما اقتصاديا، فإن هناك عشرات الأسباب التي تدعونا للتأكيد على أن مصر غير مقبلة على الإفلاس في المستقبل القريب، وأن الكلام عن أن الاقتصاد المصري على وشك الانهيار هو كلام غير علمي وغير مبني على أسس اقتصادية.
ومن بين هذه الأسباب أن مصر ما زالت ملتزمة حتى الآن بسداد أقساط وأعباء الديون الخارجية المستحقة عليها، صحيح أنها أجلت سداد ديون مستحقة عليها لدول دائنة مثل الصين والكويت والسعودية الإمارات فاقت قيمتها 13 مليار دولار في عام واحد هو 2018، لكن بشكل عام فإن مصر تواصل السداد، وبالتالي فقدت مصر شرطاً أساسياً من شروط إفلاس الدول وهو التوقف عن السداد، ولنعد لتجارب الأرجنتين وقبرص وإيسلندا وغيرها من الدول التي تم الإعلان عن إفلاسها في سنوات سابقة لتوقفها عن سداد مستحقات الدائنين الدوليين.
التدفقات النقدية
وثاني الأسباب التي تستبعد قرب إفلاس مصر هو أنه رغم المشاكل الضخمة التي واجهت الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة، إلا أن إيرادات البلاد من النقد الأجنبي لا تزال تحافظ على مستويات سنوات حكم مبارك الأخيرة والتي كانت تدور ما بين 60 و70 مليار دولار سنويا، موزعة على أنشطة رئيسية، هي تحويلات المصريين العاملين في الخارج والسياحة والصادرات والاستثمارات المباشرة وقناة السويس، إضافة إلى صادرات الغاز حديثا.
مصر ليست فنزويلا أو زيمبابوي
وثالث الأسباب هو أن مؤشرات الاقتصاد المصري لم تتدهور كما حدث في دول متعثرة مثل فنزويلا وزيمبابوي والأرجنتين في السنوات الأخيرة. مثلا في فنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم يبلغ حجمه 303 مليارات برميل، بلغ معدل التضخم بها 1.3 مليون في المائة خلال العام 2018.، وفي بعض الشهور قفز إلى 2.6 مليون في المائة.
نعم رقم التضخم بالمليون وليس في خانة العشرات كما يحدث في معظم دول العالم، وصندوق النقد الدولي توقع أن يصل معدل التضخم في فنزويلا إلى 10 ملايين في المائة بنهاية العام الجاري 2019، وحسب بيانات البنك المركزي في فنزويلا فإن معدل التضخم وصل في العام 2016 إلى 274.4%، وفي العام 2017 إلى 862.6%، وفي العام 2018 إلى 130060%. وانكمش الاقتصاد بين العامين 2013 و2018 بنسبة 47.6%.
فهل التضخم الحالي في مصر والبالغ 14.1%، حسب أحدث أرقام، يعادل تضخم فنزويلا الذي يحسب بالملايين. أيضا في فنزويلا فر 2 مليون مواطن من البلاد بسبب الفقر والجوع والغلاء وسوء الأحوال الاقتصادية، كما انهارت العملة ومعها إيرادات النقد الأجنبي.
وفي الأرجنتين توقفت البلاد في سنوات سابقة عن سداد الديون الخارجية وفقدت عملتها 50% خلال النصف الأول من العام 2018 واضطرت لزيادة سعر الفائدة 60% لوقف انهيار العملة وهروب رؤوس الأموال ومكافحة التضخم، ولجأت لصندوق النقد الدولي لاقتراض 56 مليار دولار دفعة واحدة، فهل الحال في مصر وصل إلى هذه الأرقام؟
وفي زيمبابوي تم إلغاء التعامل بالعملة الوطنية في العام الجاري 2019 واستبدالها بالدولار عقب انهيارها وزيادة نسبة التضخم 200% والبطالة 90%. وتكرر الحال في دول أخرى منها يوغسلافيا 1994 والمجر 1946 وألمانيا 1923.
مؤشرات خطيرة على رأسها الدين العام
لكن هذا لا يعني مطلقاً أن الاقتصاد المصري على ما يرام، وأن المؤشرات الاقتصادية الحالية غير مقلقة، أنا هنا فقط أرد على قصة إفلاس مصر وانهيار الاقتصاد المصري على المدى القريب، فذلك أمر مستبعد كما قلت وعرضت الأسباب، لكن ماذا عن وضع البلاد والاقتصاد على المدى المتوسط والبعيد؟
وفي مقدمة هذه المشاكل الدين العام الداخلي والخارجي الذي وصل لمستويات مخيفة خلال سنوات معدودة، فقد قفز الدين في غضون 5 سنوات فقط أكثر من 4 اضعاف ليرتفع من 1.7 تريليون في العام 2013 إلى ما يقرب من 6 تريليونات منتصف العام الجاري، كما تضاعف الدين الخارجي من 45 مليارا الى ما يقرب من 110 مليارات دولار.
والأخطر أن جزءا من هذه الديون عبارة عن قروض قصيرة الأجل يجب سدادها في غضون سنوات قليلة، والأخطر كذلك حجم فوائد وأعباء الدين، ولنا أن نتخيل أن فوائد الدين العام المصري في موازنة العام القادم 2019-2020 تصل إلى 569 مليار جنيه، وأن أعباء خدمة الدين تزيد عن 900 مليار جنيه في العام المالي الجديد، وهو ما يستنزف أكثر من 80% من إيرادات الدولة، هنا سيتبقى الفتات لتغطية خدمات رئيسية مثل الصحة والتعليم والطرق والكباري وتطوير شبكات الكهرباء والصرف الصحي وغيرها. وهذا يعني أن المجتمع والبلد والاقتصاد بات يعمل فقط بهدف سداد أموال الدائنين.
احتياطي أجنبي "منتفخ"
من بين المؤشرات الخطيرة أيضا رقم الاحتياطي من النقد الأجنبي، صحيح أنه يبلغ نحو 44 مليار دولار وهو رقم كبير ويغطي واردات البلاد لمدة تزيد عن 6 أشهر، لكن لا يجب أن نخدع أنفسنا، فالاحتياطي تم نفخه وتضخيمه عبر القروض الخارجية، ولو استرد الدائنون أموالهم خاصة قصيرة الأجل لانهار رقم الاحتياطي، وهو أمر خطر لأن الاحتياطي مخصص لدعم استقرار العملة الوطنية والدفاع عنها ضد أي مضاربات، وسداد أعباء الديون الخارجية، وتمويل فاتورة الواردات، ولا ننسى أن الحكومة اقترضت 50 مليار دولار منذ 2013 حتى يتضخم رقم الاحتياطي.
معدل النمو والعقارات والقروض
أيضا معدل النمو الذي تتباهي به الحكومة والمؤيدين لها والذي يبلغ 5.3%، فهذا المعدل ناتج بشكل أساسي عن توسع الحكومة في الاقتراض الخارجي والداخلي وضخ هذه القروض في عصب الاقتصاد، وهو ما يخلق معدل نمو مرتفعا وخادعا، كما أن معظم الزيادة في معدل النمو تأتي من قطاع واحد هو البناء والتشييد والعقارات وليس من قطاعات إنتاجية وصناعية وزراعية.
مشروعات لا تمثل إضافة للاقتصاد
أيضا المشروعات القومية الكبرى التي تتم إقامتها لأهداف سياسية وليس اقتصادية، إذ لا تمثل قيمة مضافة للاقتصاد. وأكبر مثال العاصمة الإدارية الجديدة التي تستنزف مليارات الجنيهات من الموازنة العامة وربما تغرق البلاد في أزمة سيولة كتلك التي شهدتها مصر عقب إطلاق مشروع توشكى الذي أمر مبارك بوقفه في منتصف التسعينيات بعدما تسبب في أزمات سيولة وتعثر مالي وغيرها.
دعونا لا نبالغ ونقفز إلى نتيجة غير واقعية تقول إن مصر مقبلة على الإفلاس، فمؤشرات الإفلاس لا تنطبق على مصر حاليا، وفي المقابل دعونا لا نخدع أنفسنا بأن المؤشرات الاقتصادية لطيفة ووردية ونتسول تصريحا من هنا وشهادة من هناك للتدليل على ذلك.
فالمواطن هو الذي يحكم على حال الاقتصاد وليس الأرقام غير الواقعية وفي أحيان كثيرة الخادعة، والمواطن لم يشعر بأي تحسن في مستواه المعيشي على الرغم من الحديث الصاخب عن تراجع الدولار ومعدلات النمو المرتفعة وتحسن تصنيف البلد الائتماني ونجاح برنامج الاصلاح الاقتصادي.
كما أن الرهان على مليارات ومشروعات صفقة القرن غير مضمون، واسالوا عن مصير الأموال التي وعد المانحون الدوليون بتقديمها لمصر عقب مؤتمر السلام الإقليمي الذي عقد في مدينة شرم الشيخ في العام 1996 والتي لم تأت حتى الساعة.