تُسرع الحكومة العراقية الخطى لتنفيذ اتفاقات واسعة مع الصين، لاسيما في مجال تصدير النفط والإعمار، بالتزامن مع تهديدات أميركية بعقوبات ضد بغداد " لم يروا مثلها من قبل" إذا مضت قدماً في خطط لإخراج القوات الأميركية من البلاد، في أعقاب مناوشات بين أميركا وإيران.
وبدت الأجواء بين واشنطن وبغداد متوترة في الأيام الأخيرة، بعد تصويت البرلمان العراقي في الخامس من يناير/كانون الثاني الجاري، على إخراج القوات الأجنبية من البلاد، ما أثار غضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لمّح إلى مصادرة نحو 35 مليار دولار في حساب البنك المركزي العراقي لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) فضلا عن إجراءات قاسية أخرى.
وجاء التوتر بين أميركا والعراق، في أعقاب اغتيال القائد العسكري الإيراني البارز قاسم سليماني، في ضربة جوية أميركية استهدفته في محيط مطار بغداد، بجانب قيادات في الحشد الشعبي بالعراق، فجر الثالث من الشهر الجاري، بينما ردت إيران بهجوم صاروخي الأربعاء الماضي، على قاعدتين عسكريتين تستضيفان جنوداً أميركيين في الأنبار وأربيل غرب وشمال العراق.
وفي هذه الأثناء، تحركت الحكومة العراقية نحو تفعيل اتفاقات مع الصين، جرى إبرامها قبل نحو أربعة أشهر، خاصة في قطاع النفط، لكن هذه الخطوة أثارت قلقاً كبيراً لدى سياسيين وبرلمانيين عراقيين، من رد فعل أميركي غاضب، خاصة إذا جرى تفسيرها على أنها رد عراقي على تهديدات ترامب.
وقبيل استقالته بنحو ثلاثة أشهر، زار رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، الصين برفقة وفد يضم وزراء ومحافظين ومستشارين، في سبتمبر/أيلول 2019، بهدف إبرام اتفاقات في عدة مجالات، بينها اتفاقيات تجارية ضخمة، وأخرى صناعية واستثمارية وزراعية واستكشاف النفط والغاز، عدا عن اتفاقيات أمنية.
وتضمن الاتفاق تخصيص عوائد تصدير 100 ألف برميل يومياً من إجمالي صادرات النفط العراقي للصين، لمشاريع إعمار البنى التحتية المتهالكة في العراق، حيث يبلغ إجمالي ما تحصل عليه الصين يوميا من العراق نحو 850 ألف برميل.
وكشفت مصادر حكومية عراقية لـ"العربي الجديد"، عن أن العراق فتح حساباً مصرفياً في الصين على غرار حسابات الدولة في الولايات المتحدة وسويسرا وباريس، وجرى تفعليه في الأيام الماضية.
وأكدت أن الحساب، جاء بغرض تسريع تفعيل عدة اتفاقيات أبرمها العراق مع الصين، تقوم غالبيتها على مبدأ النفط مقابل الإعمار والبضائع وغيرها، مشيرة إلى أن وفداً صينياً فنياً سيتوجه إلى العراق في الفترة المقبلة لمناقشة آليات تنفيذ بعض الاتفاقيات المبرمة، من بينها تطوير البنى التحتية للموانئ العراقية على مياه الخليج العربي في البصرة جنوب العراق.
في السياق، كشف عبد الحسين الهنين، المستشار الاقتصادي الأول للحكومة العراقية، عن أن "حجم الأعمال بين العراق والصين المستهدف خلال العشر سنوات القادمة على ضوء الاتفاقية سيزيد عن 500 مليار دولار، تبدأ من الآن".
وياتي تحرك العراق لتفعيل اتفاقاته مع الصين، بينما قدم مسؤولون بارزون في القطاع المالي العراقي مؤخرا، صورة قاتمة لمستقبل اقتصاد البلاد، في حال نفذ الرئيس الأميركي تهديده بفرض عقوبات على العراق، وذلك خلال اجتماع رفيع شارك فيه نواب في البرلمان قبل أيام، حيث استندت كافة الاحتمالات التي طرحت، إلى فرضية استمرار خضوع الحكومة العراقية لوجهة النظر الإيرانية، في ظل الصراع المشتعل بين طهران وواشنطن في المنطقة، والعراق على وجه الخصوص.
لكن مظهر محمد صالح، كبير مستشاري الحكومة العراقية للشؤون المالية والاقتصادية، وأحد المفاوضين في الاتفاقات العراقية الصينية، قال لـ"العربي الجديد"، إن " الاتفاق بين الصين والعراق فني، ونستغرب من فوضى التحليلات الحالية للاقتصاديين والسياسيين على حد سواء، نعلم أن اتفاقا مع بلد مثل الصين يعتبر منافسا قويا للولايات المتحدة في العراق يثير الجدل ايضا، لكن هذا لا يعني أنه مسيس".
وأضاف صالح ان "الاتفاق يتضمن تخصيص عوائد تصدير 100 ألف برميل من إجمالي صادرات العراق اليومية للصين البالغة نحو 850 ألف برميل، لمشاريع الإعمار، وهو بداية لدخول الشركات الصينية في إعمار البنى التحتية المتهالكة".
وتابع "إيرادات النفط كلها تذهب إلى الموازنة التشغيلية، بينما هذه فرصة أن يخصص جزء من الإيرادات بشكل جيد للإعمار والبناء". وقال إن "قضية رهن النفط العراقي لسنين طويلة كما يحذر منه البعض وسمعناه باليومين الماضيين، غير صحيحة، فهناك بند في الاتفاقية يمكن من إلغائها بأي وقت تريده، فهي عبارة عن اتفاقية مساعدة من الصين كدولة صديقة إلى العراق".
ورأى أنه "لا توجد أي مخاوف من أي عقوبات اقتصادية أميركية أو غيرها، على ضوء تطبيق هذه الاتفاقية، فالجانب الاميركي ليس له أي علاقة بهذا الملف، فلم نسمع أن هناك اعتراضات اميركية أو تحذيرات بشأن الاتفاقية أو تطبيقها".
وقال: "هناك نية في المستقبل إذا نجحت المشاريع الصينية، أن نخصص 300 الف برميل نفط يومياً لمشاريع الإعمار، بدلا من 100 ألف برميل حالياً".
وأعرب مسؤولون عراقيون في الأيام الأخيرة عن خشيتهم من انهيار اقتصادي، إذا فرضت واشنطن عقوبات، منها تجميد الحسابات المصرفية التي تحتفظ فيها بغداد بعائدات النفط، التي تشكل 90 في المائة من ميزانية الدولة.
وتأسس حساب البنك المركزي العراقي في بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركية في نيويورك في عام 2003، في أعقاب الغزو الأميركي الذي أطاح نظام الرئيس صدام حسين. وبموجب القرار رقم 1483 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي رفع العقوبات الدولية المشددة والحظر النفطي المفروض على العراق بعد غزو صدام حسين للكويت، فإن جميع عائدات مبيعات النفط العراقي تذهب إلى ذلك الحساب.
والعراق هو ثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، ويعتمد بأكثر من 90 في المائة من ميزانية الدولة التي بلغت 112 مليار دولار في 2019، على عائدات النفط. وحتى يومنا هذا، تُدفع العائدات بالدولار في حساب الاحتياطي الفدرالي يومياً، ويبلغ الرصيد الآن حوالى 35 مليار دولار، بحسب ما أكد مسؤولون عراقيون.
لكن مسؤولاً في مكتب رئيس الوزراء العراقي، قال لـ"العربي الجديد"، إن "الاتفاق بين العراق والصين منفذ منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن هناك أطرافاً سياسية موالية لإيران، حاولت استغلال هذا الاتفاق كرد فعل على عملية مقتل سليماني، بحجة انها تفعل أي شيء لا ترضى به واشنطن".
وأوضح المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه أن "هناك مخاوف حقيقية من أن التصعيد مع الولايات المتحدة، قد يدفعها فعلاً إلى فرض عقوبات اقتصادية على العراق، خصوصاً بعد الترويج لعمل الشركات الصينية في العراق، مع وجود حرب اقتصادية كبيرة بين أمبركا والصين".
ونقلت وكالة "العهد نيوز" العراقية المقربة من إيران عن مصادر وصفتها بالاستخبارية العراقية، قولها، يوم الاثنين الماضي، إن هناك "مخططا أميركيا لاستهداف العاملين في الشركات الصينية القادمين لإعمار العراق تنفيذا للاتفاقية المبرمة بين البلدين".
بدوره، قال السياسي العراقي، انتفاض قنبر، المقيم في واشنطن، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن " التعاون الجاري مع الصين، يأتي ضمن اصطدام الحكومة العراقية مع الإدارة الأميركية، الذي يأتي في إطار إرضاء إيران، لكن الصين ستستغل موارد العراق بشكل فاحش وستستحوذ على النفط العراقي، وهذا ما لم تسمح به الإدارة الأميركية".
وتسيطر أميركا بشكل كبير على مفاصل الاقتصاد العراقي منذ احتلال البلاد، خاصة النفط. فمن بين الاحتمالات التي قد تلجأ إليها أميركا منع بعض الشركات العالمية من التعامل مع الشركة الوطنية العراقية لتسويق النفط، التي تعرف اختصاراً بـ "سومو"، وهو إجراء سبق أن اختبر في الحالة الإيرانية، وكان مفعوله قاتلاً بالنسبة إلى الاقتصاد الأحادي، الذي يقوم على البترول فقط، كحالة الاقتصاد العراقي، وفق ما نقلت فرانس برس قبل يومين عن مصادر عراقية.
وقال حسين العقابي، عضو اللجنة القانونية في البرلمان العراقي لـ"العربي الجديد"، :" على الحكومة العراقية النظر إلى أن هناك صراعا دوليا باردا بين الولايات المتحدة من جانب، وإيران والصين وروسيا في الجانب الأخر، قبل اتخاذ أي خطوة يكون لها تأثير جوهري على مصالح العراق واستقراره".
وبخلاف خنق منابع تصدير النفط. يشير مسؤولون أميركيون وعراقيون، إلى أن الولايات المتحدة تدرس خيارات أخرى أقل إثارة للوضع. أحدها هو أن ترفض واشنطن تجديد الإعفاء المؤقت الذي منحته للعراق في 2018، والذي يسمح لبغداد باستيراد الغاز من إيران لتغذية شبكة الكهرباء المدمرة، رغم العقوبات الأميركية على قطاع الطاقة الإيراني.