اتجهت بعض الدول العربية في الفترة الأخيرة لمراجعة اتفاقياتها التجارية الحرة مع تركيا، وسط تعدد الدوافع التي اختلطت فيها الأوراق السياسية بالاقتصادية، لكنها في النهاية تحمل ضغوطا على أنقرة مهددة إياها بخسارة أسواق ظلت بضائعها المنافس الأكبر لاقتصادات كبرى على رأسها الصين، ذات الحضور القوي في جميع بلدان المنطقة.
وشهدت الاتفاقيات التجارية الحرة لتركيا مع بعض الدول العربية حالة من الارتباك في الآونة الأخيرة، وبخاصة مع الأردن وتونس وسورية ومصر، وأخيراً المغرب، ما بين إلغاء لتلك الاتفاقات أو تعديلها.
وأرجعت هذه الدول أسباب انتهاجها هذه السياسة، إلى ارتفاع حجم العجز التجاري مع تركيا جراء المنافسة غير المتكافئة، وانقضاض المستثمرين الأتراك على أسواق تلك الدول بكثافة، بالإضافة إلى دعم حكومة أنقرة للبضائع التركية، وهو ما يعزز قدرتها التنافسية.
إلا أن خبراء اقتصاد عرب وأتراك يرون أن الدوافع السياسية لم تغب عن المشهد، مشيرين إلى أن تلك الدول لم تتعامل بالمثل مع دول وتكتلات تشهد تجارتها معها عجزا كبيراً، مثلما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة.
وفي منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، اتفق المغرب وتركيا على مراجعة اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين بعدما قالت المملكة إن اقتصادها تضرر من الاتفاقية، حيث وصل العجز التجاري مع تركيا إلى نحو ملياري دولار سنوياً.
وسبق الاتفاق قيام الحكومة المغربية في 2018 بزيادة الرسوم الجمركية على المنسوجات التركية، ليصدر بعدها تعميم آخر من وزارة الاقتصاد في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2019 بزيادة الرسوم على السلع ذاتها تستمر حتى 31 ديسمبر من العام المقبل، 2021.
فيما عدل الجانب التونسي الاتفاقية عام 2018 بزيادة الرسوم الجمركية للعديد من البضائع التركية، ما انعكس سلباً على الصادرات التركية إلى تونس بنسبة 4 في المائة في الفترة بين ديسمبر/ كانون الأول 2018 والشهر نفسه من العام الماضي.
وأنهى الجانب الأردني اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، مبرراً ذلك بأن الواردات من تركيا تؤثر سلباً على الصناعة المحلية والوضع الاقتصادي، بينما عارض مجلس إدارة غرفة تجارة عمان هذه الخطوة، قائلا إن إلغاء الاتفاقية كان "قراراً خاطئاً ومتسرعاً" وألحق الضرر بالقطاع التجاري والمستهلك الأردني وأيضاً بالمصانع التي كانت تُصدّر للسوق التركية.
وتراجعت الصادرات التركية إلى الأردن بنسبة 23 في المائة في العام الماضي، بينما دخل الطرفان في مفاوضات من أجل توقيع اتفاقية تجارية جديدة.
وعلى الرغم من أن الجانب المصري لم يتخذ أي اجراء حيال الاتفاقية التجارية مع تركيا، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2007، إلا أن بعض البرلمانيين يطالبون بإنهائها.
وارتفعت واردات مصر من تركيا بنسبة 11 في المائة خلال الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى سبتمبر/ أيلول 2019، لتسجل 2.39 مليار دولار، مقابل 2.16 مليار خلال الفترة نفسها من 2018، رغم التوترات السياسية الأخيرة بين البلدين، في حين تراجعت الصادرات المصرية إلى تركيا بنسبة 22 في المائة، لتسجل 1.37 مليار دولار، وفق بيانات صادرة عن وزارة التجارة والصناعة الشهر الماضي.
ووفقا لبيانات وزارة التجارة التركية، فإن أنقرة أبرمت اتفاقيات التجارة الحرة مع 36 دولة، تم إلغاء 11 منها بسبب انضمام تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى إلغاء الاتفاقية مع الأردن عام 2018 وتعليقها مع سورية عام 2011.
وحاليًا، تمتلك تركيا 20 اتفاقية تجارة حرة سارية المفعول، منها مع الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة وإسرائيل ومقدونيا والبوسنة والهرسك وفلسطين ومصر وألبانيا وجورجيا والجبل الأسود وصربيا وشيلي وموريشيوس وكوريا الجنوبية وماليزيا ومولدوفا وجزر فارو وسنغافورة.
وقال الخبير الاقتصاد التركي عبد الله أداك، لـ"العربي الجديد"، إن كلا من تلك الدول له طبيعة اقتصادية وسياسية مختلفة، فعلى سبيل المثال وبالعودة إلى التعديلات التي قام بها المغرب خلال عامي 2018 و2019، فإنها جاءت مقتصرة على زيادة الرسوم الجمركية للمنسوجات.
وأضاف أداك أن تلك التعديلات ترجع للأهمية التي يوليها المغرب لإنتاج المنسوجات في السنوات الأخيرة وعدد العمال في صناعة النسيج، وبالتالي "يمكننا أن نرى أن تلك التعديلات تؤخذ فقط لحماية الإنتاج المحلي والعمالة ولا يمكن اعتبار موقف المغرب سياسيا".
وأكد أداك أن إجمالي الصادرات التركية خلال 2019 بلغ نحو 181 مليار دولار، معتبرا أن مواقف تلك الدول أثرت بالسلب على حجم الصادرات التركية بنحو 2 في المائة.
فيما قال رشيد أوراز، الباحث في المعهد المغربي لتحليل السياسات، إنه لأول مرة تتم إثارة موضوع مراجعة اتفاقيات التبادل الحر في مجال التجارة الخارجية بالمغرب، ما يؤكد أن هذا القرار يحمل ما هو سياسي وما هو اقتصادي، مؤكداً أن إثارة النقاش حول اتفاقية تبادل حر لم تتم إلا على اتفاقية واحدة فقط، وتم غض الطرف عن بقية اتفاقيات التبادل الحر رغم أن بعضها يسجل فيه المغرب عجزا أكبر مما يسجله في تلك المتعلقة بتركيا.
وأوضح أوراز أن دافع المستهلك المغربي نحو المنتج التركي يرجع لأسباب متعلقة بمعادلة الثمن والجودة وليس لسبب آخر، وهو ما فشلت فيه الشركات المغربية، وخصوصا في ما يتعلق بقطاعي النسيج وبعض الأجهزة المنزلية وبعض الأغذية.
وأشار إلى أنه في حال تم إلغاء الاتفاقية مع تركيا سيؤدي ذلك إلى حرمان المستهلكين من منتجات يعطونها أفضلية لما تتمتع به من جودة وثمن يلائم ميزانياتهم، بالإضافة إلى أنه سيؤثر على جاذبية البلاد الاقتصادية ويدفع رؤوس الأموال الأجنبية للتفكير مراراً قبل الاستثمار في المغرب.
من جانبه، اعتبر جواد العناني، نائب رئيس الوزراء الأردني للشؤون الاقتصادية سابقاً، أن الأردن لم يتخذ قرار إلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا لأسباب سياسية، بل لأسباب اقتصادية، موضحا أنه وفقا لاتفاقية التجارة الحرة، فإن أحد الطرفين يمكنه أن يعطي الطرف الآخر إنذاراً لمدة سنة برغبته في تعديل الاتفاق، وفي حال فشل المفاوضات خلال هذه السنة في الوصول إلى اتفاق، فيجوز لأي طرف إنهاء العمل بها.
وقال العناني إن الصناعيين الأردنيين كانوا يضغطون على الحكومة لإعادة فرض رسوم على سلع تنتج في الأردن ولا تستطيع منافسة السلع التركية الشبيهة بحجة أن هذه الصناعات تتمتع بدعم من الحكومة التركية، في الوقت الذي تعاني فيه مثيلاتها الأردنية من ارتفاع في أسعار الكهرباء والمياه والجمارك على المستورد من موادها الأولية.
وأضاف: "الطرفان التركي والأردني كانا يعتقدان أن كلا منهما سوف يتراجع في اللحظات الأخيرة قبل انتهاء المدة القانونية، وقد بنى الأردن استنتاجه على أن تركيا ستتراجع لأنها بحاجة للحفاظ على أسواقها، بينما كانت تركيا تعتقد أن الأردن سوف يتراجع في اللحظة الأخيرة لأنها تعتبر نفسها بوابة الأردن للتصدير إلى دول آسيا الوسطى".
وتابع أن هناك إحصائيات تؤكد أن أَي تراجع في حجم التبادل التجاري بين البلدين قد عوض بزيادة الاستثمارات الأردنية في تركيا وبخاصة العقارات، بالإضافة إلى زيادة السياحة الأردنية إلى تركيا لأسباب التسوق والعلاج، خاصة بعد هبوط سعر صرف الليرةً التركية مقابل الدولار الأميركي.
لكن الخبير الاقتصادي الأردني حسام عايش، قال إن "الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول ذات أبعاد اقتصادية، غير أن هذه الخطوة لا تعني خلوها من أبعاد سياسية".
وأضاف عايش أن كل الاتفاقات التجارية الأردنية مع كل دول العالم يغلب عليها الاختلال وعدم الاتزان في التبادل التجاري، فمثلا مع الاتحاد الأوروبي يتجاوز العجز التجاري عشرة أضعاف، مشيرا إلى أن إجمالي العجز التجاري الأردني يصل في بعض الأحيان إلى 9 مليارات دينار سنوياً (12.7 مليار دولار).
ولفت إلى أن إلغاء الأردن اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا أدى إلى ارتفاع الكلفة على المستهلكين، خاصة في قطاع الملابس، الذي كان يحتل مركزاً مهماً في المنتجات التركية، إلا أنه اعتبر أن الإلغاء ربما يساهم بدراسة أكثر جدية لاحتياجات السوق لمثل هذه الاتفاقيات لتركز على الفائدة والعوائد الاستثمارية.