لعبة الملاومة بين الأطراف المنتجة الرئيسيّة للنفط مستمرة، حتى بعد الاتصالات الهاتفية، والتهديدات المبطنة والعلنية، وتأجيلات اجتماع منظمة أوبك الذي تسبب في رفع أسعار النفط الخام ثلاثة أيام متتالية.
ولما أعلن تأجيله عدة أيام من يوم الاثنين الماضي إلى اليوم الخميس، عادت الأسعار إلى الهبوط يوم الأحد الماضي. الملفت للنظر أن سعر خام برنت هبط من 34 دولاراً للبرميل إلى 31.5 دولاراً تقريباً يوم الأحد الماضي، ولربما تشهد حتى نهاية الأسبوع خليطاً من التقلبات إلى أعلى وإلى أسفل، طالما أن الأمور غير واضحة.
وتُظهر الإحصاءات المتاحة أن أسعار برميل النفط الخام الآن في شهر إبريل/نيسان الحالي قد وصلت إلى حوالي 18 دولاراً، بينما بلغت 34 دولاراً في الشهر الماضي (مارس/آذار)، وحوالي 56 دولاراً في شهر فبراير/شباط، و63 دولاراً في شهر يناير/كانون الثاني.
وقد حصل هذا الهبوط الكبير في أسعار النفط لسببين: الأول أن معدلات النمو في العالم كانت آخذةً في التراجع، ما قلل الطلب على النفط، والثاني تعميق هذا الهبوط بعد انفجار أزمة فيروس كورونا وتقلّص النشاط الاقتصادي عالمياً.
ولكن هبوط الطلب قبل كورونا قد عزّزه التراجع في الإنتاج، والذي اتفقت عليه مجموعة أوبك وروسيا "أوبك+" بمقدار 1.6 مليون برميل يومياً.
وبعد هبوط السعر، دعت منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" إلى اجتماع بحضور روسيا، ولكن الأخيرة لم تكن في مزاج تخفيض إنتاجها ما لم يخفض إنتاج السعودية إلى تسعة ملايين أو عشرة ملايين برميل على الأكثر، وتشارك الولايات المتحدة روسيا في ذلك التخفيض.
بسبب الدخول في حرب أسعار، حصل أمران: استفحل وباء كورونا، فهبط الطلب العالمي على النفط، وهبطت الأسعار إلى 32 دولاراً كمعدل في شهر مارس/آذار. والسبب كان انتقال منحنى الطلب العالمي إلى الأسفل، مؤكداً أن الكميات المطلوبة، أي أنه عند أي سعر، ستكون أقل، وارتفع منحنى العرض، فصار سعر التوازن في مستوى أدنى من الشهر الذي قبله.
ويجب الانتباه هنا إلى أن مصرف "غولدمان ماكس" الاستثماري الأميركي وسوق السلع الرئيسيّة تنبآ بأن سعر النفط مهدّد بالانحدار إلى ما يقارب عشرة دولارات، إذا ما استمرت حرب الأسعار مشتعلة. ولكن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اتصل، في نهاية شهر مارس/آذار ومطلع شهر إبريل/نيسان، بالدول ذات العلاقة.
وقد مارس عضوان في مجلس الشيوخ من تكساس الضغوط عن طريق استدعاء سفيرة المملكة العربية السعودية في واشنطن، باعتبار أن ما تقوم به دولتها تهديد مباشر لصناعة النفط الأميركية، خصوصا أن في مدينة هيوستن أكثر من 1500 شركة نفط. واضطر الرئيس الأميركي إلى أن يضغط لعقد مؤتمر لمنظمة أوبك، ولكن المؤتمر تأخر انعقاده، ما أدّى إلى عودة الأسعار إلى الانخفاض. وما زال الجميع بانتظار ذلك الاجتماع المقرر اليوم الخميس.
ولكن من الواضح أن كثيرين من تجار النفط ووسطائه قد بدأوا يشترون النفط، ويتركونه على ظهر بواخر الشحن (tankers) في المياه الدولية. وقد كثر حجم هذا النفط بشكل كبير، وما لم تتحسن الأسعار، وينتعش الطلب، من الصعب التوقع ببيع هذه الكميات.
الأمر الثاني أن دولا رأت في هبوط الأسعار فرصةً لتعزيز مخزوناتها من النفط، أو الشراء الآجل، ويبدو أن التفاؤل بزيادة هذا الجزء من الطلب الكلي على النفط الخام قد أشبع، ولا مجال واسعا لزيادته. وبموجب احتياجات مجموعة OECD لعام 2017، فإن استخدامات النفط الخام فيها حسب الطلب هي 50% للنقل البري بالسيارات، 14.4% للصناعات البتروكيماوية، 9.1% للمساكن، 6.8% للطيران، 3.4% للبحرية، 2.3% لإنتاج الكهرباء.
ولو تأملنا لرأينا أن معظم الاستهلاك يذهب إلى النقل البري، وقد تراجع الطلب كثيراً في هذا القطاع، وتراجع الطلب لأغراض الطيران والبحرية، ولن يقل ذلك عن 20% - 25%. أمام هذه الاعتبارات، صار هناك فائض واضح في إنتاج مصافي البترول.
أمام هذه الحقائق يُطرح السؤال: ماذا لو استمرت أزمة كورونا شهرين أو ثلاثة شهور، فإن إنتاج النفط لدى مجموعة أوبك، بالإضافة إلى روسيا والولايات المتحدة، والذي يشكل بين 55% - 60% من الإنتاج العالمي، يجب تخفيضه بمقدار 20% على الأقل، ليتوازن مع ظروف الطلب العالمي.
وهذه بالطبع تقديرات أولية، ولكنها تعطي صورة أفضل بكثير من التقديرات الجزافية. اقتطاع 25% من إنتاج "أوبك" وروسيا والولايات المتحدة يعني تخفيض الإنتاج على الأقل بمقدار عشرة ملايين برميل يومياً، حتى يستعيد النفط سعر الـ45 دولاراً للبرميل، وهو سعرٌ يمكن لطرفي العرض والطلب التعايش معه.
إن سرعة التقلب في أسعار النفط الخام من يوم إلى آخر، واستجابة لتصريح غير مدروس من رئيس دولة عظمى، أو بسبب تهديد وجّه لدولة من دولة أكبر منها، يعكس حالة الغموض والشك السائدة، ليس في أسواق النفط وحدها، وإنما في أسواق العملات والبورصات والسلع أيضاً.
وتحتاج حالة الغموض إلى كشف الحجب وإلى شفافية المعلومات، وإلى التعاضد بين الدول للخروج من هذه الحالة المهدّدة بانزلاق اقتصاديات الكورونومكس إلى حالة ركود عميق، يهدد الأمن الاقتصادي العالمي.