دخل الصراع الدائر بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي المدعوم من الإمارات، مرحلة جديدة من التصعيد، بسيطرة المجلس على إيرادات 7 جهات حكومية، وفق بيان صادر عنه يوم الخميس الماضي، بينما ردت الحكومة بقرار في اليوم التالي يقضي بإغلاق حسابات مصرفية فتحها المجلس في البنك الأهلي لتحويل الأموال إليها بدلا من ذهابها للبنك المركزي في عدن (جنوب).
وتضمن القرار الحكومي، الذي اطلعت عليه "العربي الجديد" إحالة المدير العام لمكتب المالية في عدن إلى النيابة العامة للتحقيق معه في التواطؤ مع كيان غير قانوني لا يحمل أي صفة رسمية"، داعيا جميع القطاعات والمصالح الإيرادية، إلى "عدم التعامل مع المجلس الانتقالي تحت مسمى الإدارة الذاتية أو أي جهة غير رسمية".
وجاءت هذه التطورات بعد أيام من إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي في 25 إبريل/نيسان الماضي، الحكم الذاتي وحالة الطوارئ في المناطق التي يسيطر عليها في جنوب البلاد، في تحد للحكومة، التي أدانت هذه الخطوة مؤكدة أنها تمرد على الشرعية.
وتشتد وتيرة الخنق المتبادل للموارد في الجنوب، حيث لم تعد تقتصر على السيطرة على الإيرادات المالية في خزائن الجهات الرسمية وإغلاق الحسابات المصرفية ومنع التصرف في الأموال المودعة بها، وإنما طاولت منع نقل النفط الشحيح بغرض التصدير.
ومنعت قوات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي في ميناء عدن إبحار ناقلة من ميناء الزيت، إلى ميناء النشيمة النفطي بمحافظة شبوة (جنوب شرق) التي تستخدمها الحكومة في تصدير النفط المستخرج من "حقل 18" في صافر بمحافظة مأرب (شرق) المقدر بنحو 25 ألف برميل يومياً، وهي الكمية الوحيدة التي استطاعت الحكومة تصديرها منذ مطلع العام الماضي نتيجة استيلاء الإمارات على معظم مواقع إنتاج وتصدير النفط والغاز.
وينفذ "الانتقالي" منذ إعلانه الإدارة الذاتية سلسلة من الإجراءات الاقتصادية، بحجة مكافحة الفساد وإيقاف العبث بالموارد العامة وتوجيهها لتوفير الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه، بينما بحثت الحكومة في اجتماع طارئ عقدته، عبر الاتصال المرئي عن بعد، الخميس الماضي، التطورات التي وصفتها بالخطيرة والمتمثلة في نهب موارد الدولة واقتحام الوزارات والمؤسسات والتدخل في عملها والسيطرة عليها من قبل مجاميع مسلحة تابعة لما يسمى بـ"المجلس الانتقالي".
ويقول الباحث الاقتصادي عصام مقبل لـ"العربي الجديد" إن "الانفصاليين الجنوبيين يستلهمون تجربة الحوثيين في صنعاء بالتركيز على الملف الاقتصادي والاستحواذ الكامل على الإيرادات العامة من خلال إنشاء لجنة اقتصادية على غرار لجنة حوثية مماثلة".
ويضيف مقبل: "هناك تغير في أدوات اللعبة الإماراتية في عدن بعد أن أنهت وجودها العسكري هناك، حيث لا تريد الاستمرار في الدفع المجاني لعشرات المليشيات التي كونتها، بينما ظلت تدفع رواتب مجزية لأفرادها بنحو ثلاثة آلاف ريال سعودي (الريال السعودي يساوي 150 ريال يمني) للفرد الواحد كراتب شهري في حين راتب الجندي في الحكومة اليمنية لا يتعدى ألف ريال سعودي".
وحسب مقبل فإن الإمارات تريد أن تربط دعمها الانتقالي الجنوبي بخطط مصالح واسعة بين الطرفين تجني ثمارها الاقتصادية من خلال إدارة ميناء عدن الخاضع لسيطرة مليشياتها وتوقيع عقود لاستكشاف النفط والغاز في خليج عدن وإدارة مختلف المواقع الاقتصادية واستغلال الثروات الطبيعية في المحافظات الجنوبية.
وكان اليمن ينتج حوالي 127 ألف برميل يومياً في المتوسط قبل الحرب في 2014، حيث يعتبر النفط المحرك الرئيس لاقتصاد الدولة الفقيرة، ويمثل 70 في المائة من موارد الموازنة، و63 بالمائة من الصادرات، و30 في المائة من الناتج المحلي، وتمثل عائداته نسبة كبيرة من موارد النقد الأجنبي.
ويقول الخبير الاقتصادي مجدي العكوري، إن الإمارات تريد أن يتسلم المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تدعمه مواقع الإنتاج، ويكون له دور في الإشراف على عملية التصدير وإدارة الموارد العامة، في إطار مساعيها لتفتيت اليمن وتكوين سلطات موازية للحكومة، سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي.
ويشير العكوري، إلى الدور السلبي للتحالف العسكري في اليمن، في خلق سلطات موازية للحكومة اليمنية وتقويض تواجدها على الأرض وإدارة الموارد العامة للدولة، لهذا لم تستطع الحكومة إعادة إنتاج وتصدير النفط والغاز بالشكل المرجو منذ نحو ثلاث سنوات.
وخسر اليمن ما يزيد عن خمسة مليارات دولار، كان من الممكن أن تضخ إلى خزينة الدولة خلال الخمس سنوات الماضية، جراء توقف تصدير النفط والغاز وتعطيل الموانئ والمطارات، وإصابة كافة المرافق والقطاعات الاقتصادية بالشلل التام جراء العبث الذي أصابها منذ سيطرة التحالف على المناطق المحررة من قبضة الحوثيين، والتي يستخرج منها أغلب إنتاج اليمن من النفط والغاز.
وتقدّر بيانات رسمية يمنية، اطلعت عليها "العربي الجديد"، المخزون النفطي بنحو 11.95 مليار برميل، منها 4.78 مليارات برميل قابلة للاستخراج بالطرق التقليدية الحالية.
تغرق عدن ومحافظات أخرى في جنوب اليمن في دوامة أزمات معيشية، وقد يؤدي الصراع الراهن بين الحكومة والمجلس الانتقالي على الموارد المالية، إلى تفاقم الأزمات وتعميق معاناة المواطنين في العاصمة، التي تواجه تحديات مركبة على المستويات الصحية والاقتصادية والمعيشية.
يؤكد يونس العمري، الذي يعمل موظفا في مؤسسة حكومية، أن الموظفين لم يتسلموا رواتبهم منذ شهرين، الأمر الذي فاقم وضعهم المعيشي خصوصاً في شهر رمضان، إذ يعتبر الراتب مصدر دخله الوحيد حسب حديثة لـ"العربي الجديد".
وتعاني عدن ومدن يمنية أخرى من تداعيات فيروس كورونا الجديد، وسيول وأوبئةٍ وانعدام الكهرباء، فيما تسود الفوضى والارتباك، نتيجة الانقسام الحاد والصراع بين العديد من الأطراف. ومع تردي الخدمات، انهارت القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وأصبح الكثير من أصحاب الدخول الثابتة، والعائلات الأشد فقراً، عاجزين عن تحمّل النفقات الأساسية من غذاء وعلاج.
ويُسطر الصراع على الموارد بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة، فصلا جديداً من الحرب الاقتصادي المحتدمة بالأساس منذ أكثر من 4 سنوات بين الحكومة والحوثيين الذين يسيطرون على صنعاء والعديد من المحافظات.
وتحكم سلطات الحوثيين قبضتها على المؤسسات المالية والمصرفية في صنعاء والمناطق الخاضعة لسيطرتها، منها 11 مصرفا رفضت نقل مراكزها الرئيسية إلى عدن جنوب البلاد التي اتخذتها الحكومة اليمنية عاصمة مؤقتة.
وكانت الحكومة اليمنية قد اتخذت في سبتمبر/أيلول 2016 قراراً بنقل البنك المركزي اليمني إلى عدن، ليشهد البلد منذ ذلك الوقت صراعاً اقتصادياً ومالياً كبيراً أدى إلى انهيار العملة.
وزادت معاناة اليمنيين منذ نهاية العام الماضي مع اشتعال الصراع على العملة، حيث ينفذ الحوثيون منذ ديسمبر/كانون الأول 2019 قراراً بمنع تداول العملة الجديدة المطبوعة من قبل البنك المركزي في عدن، في مناطق سيطرتهم.
وتأثرت الأسواق اليمنية كثيراً نتيجة هذا الصراع الذي تسبب بانخفاض الريال اليمني مقابل الدولار بنسبة كبيرة مع فارق سعري بين عدن (جنوباً) وصنعاء (شمالاً) وارتفاعات واسعة في أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية في عموم المناطق اليمنية، وتأسيس سوق سوداء رائجة في "التحويلات المالية".
وساهمت الحرب والأزمة الاقتصادية وتقويض مؤسسات الدولة وعدم استغلال الموارد العامة وتوقف دفع رواتب الموظفين المدنيين، في توسيع رقعة الفقر بشكل حاد.
ويقول نبيل العقيلي، الأستاذ في جامعة عدن لـ"العربي الجديد"، إن الفوضى تعم العاصمة المؤقتة، في ظل تردٍ معيشي مخيف وغياب معظم الخدمات العامة وقطاعات أعمال مصابة بالشلل التام، بينما يتركز الصراع للاستيلاء على الموارد العامة وليس لتوفير الخدمات وتخفيف المعاناة المعيشية التي تُثقل كاهل المواطنين في مدينة تشهد تفشي انتشار فيروس كورونا وأوبئة أخرى.
ويضيف العقيلي: "هناك تواطؤ سعودي مع إجراءات المجلس الانتقالي، من خلال استعدادها لتوفير بعض الاحتياجات لتسهيل مهام المجلس في الإدارة الذاتية مثل توفير كميات مناسبة من المشتقات النفطية والمازوت لتشغيل محطات الكهرباء العامة، بعد أن كانت هذه الخطوة وهذا الدعم يتم فقط عبر الحكومة اليمنية".
وكان وزير النقل في الحكومة اليمنية، صالح الجبواني، قد قال في حوار مع "العربي الجديد"، نشر في السادس من مارس/ آذار الماضي، إن سيطرة التحالف العسكري، الذي يضم السعودية والإمارات، على مختلف المنافذ والموانئ والمطارات اليمنية، أضرت بالاقتصاد، مشيراً إلى تقلص استفادة اليمن من هذا القطاع الحيوي منذ بدء الحرب.
ودعا الجبواني، في حواره، التحالف لتمكين الحكومة اليمنية من إدارة كافة قطاعات النقل، حيث يُعتبر قطاع النقل الركيزة الأساسية للدفع بعجلة التنمية الاقتصادية نحو التطور والنهوض.
وأضحى اليمن مسرحا للصراعات والسيطرة على النفوذ والثروات، خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينما يعاني أغلب السكان من الفقر وانعدام الأمن الغذائي، وفق التقارير الرسمية المحلية والدولية.
وتعتمد نسبة كبيرة من السكان على ما يصلها من المساعدات الإغاثية رغم قلّتها. وكانت الأمم المتحدة قد قالت، في تقرير في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إن نسبة الفقر في اليمن وصلت إلى 75 في المائة من السكان، مقارنة بنحو 47 في المائة قبل بدء الحرب.
وأضافت أن "الحرب لم تتسبب بجعل اليمن أكبر أزمة إنسانية في العالم فحسب، بل أغرقته في أزمة تنموية مروعة أيضاً"، مشيرة إلى انهيار الاقتصاد، الذي خسر نحو 89 مليار دولار منذ 2015. وحذرت من أنه إذا استمر القتال حتى عام 2030، سيعيش 78 في المائة من اليمنيين في فقر مدقع، وسيعاني 95 في المائة من سوء التغذية.