تسعى تونس إلى الحد من غسل الأموال عبر تطبيق إجراءات جديدة تقلّص من تداول النقود في الأسواق والمعاملات، حيث بدأت مطلع يونيو/ حزيران الجاري في ترشيد تداول الأموال نقداً في المعاملات التي تتجاوز قيمتها 5 آلاف دينار (1600 دولار)، تطبيقاً لأحكام الموازنة التي أقرها البرلمان قبل سبعة أشهر.
وبمقتضى الإجراء الجديد ستمنع كل الخدمات والعقود المتعلقة ببيع العقارات أو الأصول التجارية أو وسائل النقل التي تقتضي تعاملات مالية نقدية وتحويلها نحو معاملات مالية رقمية (إلكترونية) لكبح المال السائل المتداول خارج المصارف والتضييق على منافذ تبييض الأموال.
ويمثل المال السائل المتداول خارج المصارف ومنافذ تبييض الأموال من أبرز مشاكل الاقتصاد التونسي بحسب مختصين في الشأن المالي الذين طالبوا بضرورة الإسراع إلى الانتقال إلى التعاملات المالية الرقمية وتقليص التداولات النقدية للحد من توسع الاقتصاد الموازي.
يتفق معظم الاقتصاديين في تونس على أهمية الحدّ من توسّع السوق السوداء للعملات نظراً لتداعياتها الوخيمة على مستوى تقليص حجم العملة المتداولة وزيادة معدل التضخم.
وفي وقت سابق، قدّر محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي حجم الأموال المتداولة خارج المصارف بنحو 4 مليارات دينار (1.33 مليار دولار)، نصفها يتم تداوله بالمناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر.
ويعتبر الخبير الاقتصادي بلحسن الزمني المرور التدريجي إلى مرحلة الرقمنة المالية مهماً لصورة تونس كبلد يقاوم تبييض الأموال ويسعى لكبح السوق السوداء، مؤكداً أن الأفراد والشركات بحاجة إلى التعامل في سوق مالية متطورة وأكثر مرونة.
وقال الزمني في تصريح لـ"العربي الجديد" إن تضخم الكتلة النقدية خارج الجهاز المالي الرسمي تسبب في السنوات الماضية في شح السيولة بالمصارف وأثر على تمويل المشاريع الاقتصادية والاستثمار.
ويرى الزمني أن الحكومة مطالبة بالتدرج نحو الحد من التداول النقدي بإجراءات إضافية وتشجيعات على توسعة قاعدة استعمال بطاقات الائتمان بالتنسيق مع جامعة المصارف بهدف زيادة السيولة داخل الجهاز المصرفي والحد من كل المعاملات التي يمكن أن تكون بوابة نحو غسيل الأموال وخاصة منها المتعلقة باقتناء العقارات، حسب قوله.
وقال إن شحّ السيولة سيساهم في تزايد لجوء القطاع المصرفي إلى إعادة التمويل من المصرف المركزي ويرفع نسب الفائدة على القروض الموجهة للاقتصاد والعائلات فيما يخفي المهربون أموالاً طائلة تظل خارج دائرة المراقبة والضرائب.
ورغم أن التصريحات الرسمية لا تكشف عن خارطة التعامل النقدي المكثف إلا أن دراسات مختصة قام بها جامعيون تونسيون أكدت وجود مبالغ كبيرة من النقد في المناطق الحدودية، وخاصة جنوب البلاد، وتأتي أساساً من ريع الاتجار في المواد المهربة.
وتنتشر تجارة العملة بكثرة في المناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر، خصوصاً جنوب البلاد، حيث توجد مكاتب الصرافة "غير القانونية" وتنافس المصارف في مختلف نشاطات الصرف.
ويناهز حجم التداول اليومي للعملة في مكاتب الصرافة في بنقردان لوحدها 4 ملايين دينار (1.33 مليون دولار) وفق دراسة مختصة أجراها أستاذ الاقتصاد محمد الهدار.
ويفيد خبير في العقارات، فضل عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، أن جزءاً من النقد المتداول في المدن الحدودية ينقل إلى العاصمة والمدن الساحلية ويقع تبييضه في اقتناء عقارات، وخاصة منها المقاهي الفاخرة والشقق، ما يفسر القفزات غير المسبوقة التي شهدتها أسعار العقارات والأراضي المخصصة للبناء في هذه المناطق.
وأضاف أن الأموال تنقل في أكياس وأن أصحابها يقتنون معدات لاحتساب المبالغ على غرار الآلات المعتمدة في البنوك، مشيرا إلى أن الإجراء الحكومي الجديد سيضيق دائرة حركة النقد والأموال السائلة ويضعف من تداولها ما يدفع مكتنزي النقد إلى بحث تسويات مع المصارف حتى لا تفقد قيمتها وفق تأكيده.
في المقابل، يحمّل الخبير الاقتصادي صادق جبنون منظومة الصرف في تونس جزءاً من مسؤولية توسع دائرة التداول النقدي، مشيراً إلى أنّ ظاهرة السوق الموازية سببها تكلّس منظومة الصرف التي تم إحداثها منذ 1976، والتي تمنع المواطنين من امتلاك حسابات بالعملة الصعبة.
ولفت جبنون، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن السوق الموازية تعتبر أكثر تنافسية من السوق الرسمية، مستنداً في ذلك إلى بيانات مؤسسة التراث الأميركي التي تشير إلى تراجع تونس إلى المركز 125 في مجال الحريات الاقتصادية وحرية نقل العملة.
ولا يتوقع جبنون نتائج مهمة من الإجراء الحكومي بترشيد تداول النقد بالرغم من العقوبات التي ستفرض على المخالفين، نظراً إلى ضعف التغطية المصرفية، مشيراً إلى أن دراسات مختصة أكدت أن 2.4 مليون تونسي ليست لديهم حسابات مصرفية ولا بريدية.
وكشفت دراسة ميدانية حول الاندماج المالي نهاية مايو/ أيار، أجراها مكتب دراسات مختص لصالح البنك المركزي التونسي ووزارة المالية، تحت إدارة بنك الاستثمار الأوروبي؛ ضعف تعاملات التونسيين مع الأجهزة المالية الرسمية، من مصارف ومؤسسات القرض والتأمينات والبريد.
وبيّنت أول دراسة مرجعية حول الإدماج المالي في تونس أن ثلث التونسيين فقط لديهم حسابات مصرفية، وأن عدد عملاء المؤسسات المالية الرسمية لا يتعدى 33 في المائة وأن 66 في المائة من التونسيين اقترضوا عام 2018 من خارج الجهاز المصرفي الرسمي.