تسويق الوهم على ذبذبات انهيار الليرة السورية

12 ديسمبر 2019
سعر الليرة السورية منذ 1970 حتى 2019 (العربي الجديد)
+ الخط -
منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي والليرة السورية تفقد من وزنها النوعي أمام الدولار، العملة العالمية وأداة التداول الأولى، حيث تشير مواقع مختلفة إلى تدرج هذا التدني والتراجع المستمر للعملة السورية، ففي بداية السبعينيات كان الدولار يساوي 3.6 ليرات تقريباً، ووصل في نهايتها إلى حوالي 4 ليرات سورية، ثم في بداية الثمانينيات بلغ سعر الدولار حوالي 6 ليرات سورية، وفي نهايتها تجاوز 11 ليرة.

وانحدرت العملة السورية في فترة التسعينيات ليقفز سعر الدولار إلى 42 ليرة سورية، وما بين عامي 2000 و2010 تأرجح سعر صرف الدولار بين 46 و50 ليرة، وهذا يؤشر إلى أن الليرة السورية كانت تخسر حوالي 40% من قيمتها سنوياً مقابل العملة الأميركية.

الاقتصاد المقاوم

ولك أن تتصور أثر ذلك التراجع التضخمي للعملة المحلية وانعكاساته في الأوعية الاقتصادية والمعيشية.

في هذا السياق تعاقبت العديد من الحكومات المالية والنقدية داخل سورية التي كانت تنفذ إرادات مختلفة، ولا تصنع سياسات مالية ونقدية ولا تملك الأدوات، ولا تمارس إدارة هذا القطاع، بل عمدت إلى تولي مهمة تسويق الوهم للمواطنين، وإطلاق مصطلحات مختلفة مثل "الاقتصاد المقاوم" و"اقتصاد المواجهة"، وتبرر السياسات الانكماشية والمحافظة باستقلالية القرار الاقتصادي، وتخلط بين استثمارات الدولة واستثمارات شركاء السلطة الفاسدين، وصدر قانون الاستثمار رقم 10 وتعديلاته وفق قياس المتنفذين في الدولة،.

ثم جاءت مرحلة تسويق نظريات جديدة مثل اقتصاد السوق الاجتماعي، في الوقت الذي انحسرت فيه الطبقة الاجتماعية الوسطى في البلاد، حيث غدا الناس موزعين بين طبقتين فقط: إحداهما ثرية، والثانية، وهي الغالبية، فقيرة كادحة وتمثل الجمهور الذي تمارس عليه الحكومة فنون التسويق والتجريب المختلفة.

اقتصاد معزول

على سبيل الذكر، لا الحصر، فقد صرح وزير المالية السوري السابق محمد الحسين في عام 2008 إبان الأزمة المالية العالمية بأن اقتصادنا السوري لن يتأثر بالأزمة، وتباهى حينئذ بثبات سعر الصرف، ولم يقل قناعته، التي أجزم أنه يعرفها ويخالفها، بأن اقتصادنا معزول عن الأوعية الاقتصادية والمالية العالمية ولا صلة له بآليات التقدم الاقتصادي، وبالتالي من الطبيعي ألا نتأثر بانقطاع التيار الكهربائي طالما أننا لا نمتلكه.

واستمرت حملات تسويق الوهم من قبل النظام بالحديث عن التطوير والتحديث من خلال رفع الدعم، وزيادة الضرائب وأوعيتها، وزيادة رواتب غير حقيقية، وتحميل المواطن مسؤولية التنمية، بينما تأخذ الحكومة على عاتقها مسؤولية تنمية مشاريع شركاء السلطة المتنفذين، وعند كل تغيير حكومي أو لموظفين كبار في القطاع المالي والنقدي، تجد بصمات أبو رامي أو أبو يعرب وأحياناً أبو جاسم، تشابه أسماء لا أكثر، أو بصمات الجهات المختصة بحراسة وتنمية المال، والافتخار بثبات سعر صرف الليرة أول مزايدة لحاكم مصرف سورية المركزي المصرفي المحكوم.

الليرة والثورة

ومنذ النصف الثاني من عام 2011 بدأت الليرة السورية تشهد هزات واضحة وعنيفة بشكل متدرج ومرتبط بإيقاع السياسة والمواجهات وآثارها المختلفة على الأرض، فقد تعطل الاقتصاد السوري بتنوع قطاعاته وموارده بنسبة كبيرة، حيث تراجع الناتج الإجمالي المحلي حوالي 65%، وتعددت سلطات الأمر الواقع والتي استنزفت الموارد الطبيعية كالنفط وغيره، وكذلك تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ مختلفة وقطع التواصل والتبادل.

كل ما تقدم سيؤدي حتماً لانخفاض قيمة الليرة السورية وبشكل متسارع، ولكن ما حصل مؤخراً من انهيار سريع في سعر الصرف مقابل العملة الأميركية لدرجة أن الدولار الواحد لامس حاجز الألف ليرة له جذر في اختلالات هيكلية في عمق الاقتصاد السوري وإدارته، وله أسبابه الإضافية مثل انهيار الثقة بالحكومة وسياساتها وعملتها الممولة بالعجز، وكذلك الحراك في الشارع اللبناني والذي انعكس على شكل سياسات وإجراءات احترازية لدى البنوك اللبنانية والتي تعتبر المتنفس الحيوي لرجال المال والأعمال السوريين، ولا ننسى المتغير السياسي في الحالة الإقليمية والسورية.

اقتصاد الحرب

لم يغب تسويق الوهم من قبل النظام حتى في هذه المراحل من تدني قيمة الليرة السورية، فقد حاولت حكومة النظام مراراً وتكراراً تسويق فكرة اقتصاد الحرب ومكافحة الإرهاب وحض المواطنين، ليس كل المواطنين، على الصبر والتحمل، والتضحية بكل ما يملكون وما لا يملكون، وكذلك تسويق وهم الزيادات والمنح من خلال التلاعب بسعر الصرف والتمويل بالعجز وضخ عملات بدون رصيد، وآخرها مرسوم زيادة الرواتب والأجور والذي عملياً نتج عنه انخفاض قيمة الرواتب بحوالي 8 دولارات.

ولم تنسَ بعض شخصيات المعارضة السياسية المنفعلة والمنفصلة عن الواقع نصيبها من تسويق الوهم، حيث بدأوا يهللون ويبشرون بسقوط نظام الحكم من خلال تدني سعر صرف الليرة، متجاهلين التجارب العالمية والتحليل العلمي الواقعي لما يحدث على أرض الواقع، فسعر الصرف يهز الثقة ويؤثر في السلوك الاستثماري ولكنه لا يسقط نظام الحكم.
ويبقى السوري وأسرته وحاضره ومستقبله، هو من يدفع الثمن.
المساهمون