تمهد الزيارة القصيرة التي قام بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى القاهرة، يوم الإثنين الماضي، الطريق للتحقيق الفعلي لمشروع المحطة النووية في الضبعة، واستئناف حركة الطيران المباشر بين موسكو والقاهرة، والتي ظلت متوقفة لأكثر من عامين، بعد حادثة تحطم طائرة "إيرباص-321" الروسية في سيناء، في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وسط ضبابية آفاق استئناف الرحلات إلى منتجعي الغردقة وشرم الشيخ.
بعيد التوقيع على العقود التجارية اللازمة للشروع في أعمال إنشاء محطة الضبعة، أوضحت شركة "روس آتوم" الروسية، في بيان تداولته صحيفة "إر بي كا"، أن العقود الموقعة في إطار زيارة بوتين تشكل "أكبر صفقة في تاريخ قطاع الطاقة النووية" على مستوى العالم، وأكبر اتفاقية للصادرات غير النفطية في تاريخ روسيا.
وقدّر رئيس "روس آتوم"، أليكسي ليخاتشوف، قيمة المشروع بنحو 21 مليار دولار، على أن يتم استكمال أعمال بناء الوحدات الأربع بحلول عام 2028 أو 2029.
ويرى الخبير في شؤون الشرق الأوسط بالمجلس الروسي للشؤون الدولية، سيرغي بالماسوف، أن إبرام عقود الضبعة يدل على توصل البلدين إلى اتفاق يرضي الجانبين، فيما يتعلق بقيمة المشروع وآلية التمويل.
ووقّعت موسكو والقاهرة، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، اتفاقية مبدئية لبناء وتشغيل المحطة، ومنذ ذلك الوقت يقول الجانبان إنه تجري مناقشة الصيغة النهائية للعقد.
ويقول بالماسوف، في حديث لـ"العربي الجديد": "تردد سابقا أن قيمة بناء محطة الضبعة ستبلغ 30 مليار دولار، ولكن "روس آتوم" أعلنت اليوم عن رقم أقل من ذلك كثيرا، ما يعني أن الجانب الروسي قدم تسهيلات هامة".
وحول آفاق التحقيق الفعلي للمشروع على الأرض، يضيف: "لا يمكن ضمان ذلك، إذ إن هناك سوابق لتأخر بناء محطات نووية لسنوات طويلة، واستبدال الشركة المنفذة، كما هو حال محطة بوشهر في إيران. عوامل سياسية أو اقتصادية مختلفة قد تدخل على الخط، والأهم لتحقيق المشروع هو أن تستمر حالة الاستقرار في مصر. لا مجال لإعلان نجاح مثل هذا المشروع إلا بعد بناء المحطة وتشغيلها وتوصيلها بشبكات الكهرباء المصرية".
ويفصح تاريخ مصر عن محاولات لإنشاء محطات نووية، الأمر الذي اعتبره محللون في مجال الطاقة، لا يدعو كثيراً إلى التفاؤل.
فقد بدأت مصر برنامجها النووي في السبعينيات من القرن الماضي. لكن عقب كارثة تشيرنوبل في الاتحاد السوفييتي عام 1986 التي أسفرت عن أكبر تلوث إشعاعي في التاريخ، جمدت مصر، شأنها في ذلك شأن غيرها من الدول، مشروعها النووي، وسط تساؤلات حول مدى أمان الطاقة الذرية.
وبعد مرور أكثر من عقدين على الكارثة وتدارك الأخطاء في الأجيال الجديدة من المفاعلات النووية وتشديد معايير الأمان، توجه العديد من الدول لاستئناف مشاريعها النووية.
وفي عام 2008، أعلن الرئيس المخلوع حسني مبارك، استئناف البرنامج النووي المصري، قبل أن يحسم في عام 2010 جدلاً حول موقع أول محطة نووية ويعلن اختيار منطقة الضبعة لإقامتها.
وكان من المقرر أن يتم الإعلان عن مناقصة لبناء المحطة قبل نهاية عام 2010، ثم تم إرجاؤه إلى بداية 2011. إلا أن سقوط نظام مبارك وما تلاه من اضطرابات سياسية وأمنية أدى إلى إرجاء المشروع، قبل أن تتكثف المفاوضات مع روسيا منذ بداية عام 2015، بالتزامن مع زيارة بوتين إلى القاهرة.
استثمارات في قناة السويس
أما آفاق الاستثمارات الروسية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس التي تحدّث عنها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، فيراها بالماسوف واعدة جدا وجذابة لكبرى الشركات الروسية، لكن بشرط حصولها على تسهيلات هامة في هذه المنطقة.
والاتفاقية الموقعة بين البلدين لبناء المحطة النووية في الضبعة، تنص على بناء وتشغيل محطة مكونة من أربع وحدات بقوة 1200 ميغاواط لكل واحدة منها تلبي آخر معايير الأمان.
وفي حال إتمام المشروع ونجاحه، فإنه سيفتح لـ"روس آتوم" سوقا واعدة جديدة في شمال أفريقيا، بينما ستغطي مصر حاجياتها المتزايدة من الطاقة في ظل الانفجار السكاني الذي تعيشه، بالإضافة إلى إنشاء محطات لتحلية المياه بكل من المفاعلات الأربعة.
أما المنطقة الصناعية الروسية في مصر، فستشكل، في حال إقامتها، سابقة في التاريخ الروسي والسوفييتي لنقل بضعة مصانع للصناعات الثقيلة إلى بلد أجنبي، وستشكل بوابة لزيادة الصادرات غير النفطية الروسية إلى بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، بينما ستستفيد مصر من جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية وخلق فرص عمل جديدة.
مخاطر عودة السياحة
أكد بوتين في ختام محادثاته مع السيسي أن روسيا "مستعدة بشكل عام لاستئناف الطيران المباشر بين موسكو والقاهرة"، بينما توقع وزير النقل الروسي، مكسيم سوكولوف، أن تنطلق أول رحلة إلى القاهرة مطلع فبراير/شباط المقبل، من دون ذكر أي موعد محتمل لاستئناف الطيران العارض (تشارتر) إلى المنتجعات المصرية.
ويلخص بالماسوف مخاطر عودة السياحة الروسية إلى مصر في المخاوف على سلامة المواطنين الروس، وعدم رغبة السلطات الروسية في إفساح المجال أمام منافس قوي آخر للمنتجعات داخل البلاد.
ويقول في هذا السياق: "وجدت روسيا نفسها في وضع صعب، تؤكد الزيارات الرفيعة المتتالية سعي موسكو لتطوير علاقاتها مع مصر، لكن في حال تكررت فاجعة مقتل مواطنين روس، سيتم الإلقاء باللائمة على من سمح بعودتهم، وعلى مصر أن تتفهم مخاوف روسيا".
ويوضح أن هذه المخاوف لا تقتصر على سلامة الرحلات الجوية، بل تشمل أيضا أمان السياح على الأرض، لاسيما بعد الهجوم الإرهابي الدموي على مسجد الروضة في العريش.
وحول شبهة دوافع الحمائية لعدم استئناف الرحلات لمصر، يتابع: "تتعارض عودة السياحة الروسية إلى مصر مع خطط السلطات الروسية لتنشيط السياحة الداخلية منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. ليس سرا أن الفنادق المصرية تقدم خدمات وأسعارا أفضل مقارنة بالقرم أو منتجع سوتشي على البحر الأسود.
وفي حال استئناف الرحلات إلى مصر، لن يتردد السياح الروس في العودة إلى منتجعاتها، بصرف النظر عن التحذيرات الأمنية".
وقبل حظر حركة النقل الجوي بين البلدين، كانت مصر تعتبر الوجهة الثانية للسياحة الخارجية الروسية بعد تركيا، وتمكنت من جذب نحو ثلاثة ملايين سائح روسي في عام 2014.
وكانت الغردقة تستقبل نحو 60 في المائة من السياحة الروسية الوافدة إلى مصر، بالإضافة إلى 40 في المائة إلى شرم الشيخ، إلى أن فرضت روسيا حظرا على جميع الرحلات الجوية إلى مصر بعد حادثة تحطم طائرة "إيرباص" التابعة لشركة "كوغاليم آفيا" في سيناء التي أسفرت عن مقتل 224 شخصا، وتعتبر بذلك أسوأ حادثة في تاريخ الطيران الروسي والسوفييتي.
وتعد مصر شريكا اقتصاديا رئيسيا لروسيا في شمال أفريقيا، إذ يقدر حجم التبادل التجاري بين البلدين بنحو 4 مليارات دولار سنويا.
ومع ذلك، لا يزال هيكل هذا التبادل التجاري غير متوازن تماما، إذ تبلغ حصة الصادرات الروسية فيه نحو 90 في المائة، مقابل 10 في المائة فقط حصة الصادرات المصرية إلى روسيا.
إلا أن استقبال مصر ملايين السياح الروس كان يحقق توازنا في العلاقات الاقتصادية، إذ كان يأتي بمثابة تصدير الخدمات السياحية المصرية إلى روسيا، ليتحول غياب السياح، لأكثر من عامين، إلى ملف شائك في العلاقات بين البلدين، خاصة أنه قد تردد أكثر من موعد محتمل لاستئناف رحلات الطيران.
ووسط غياب الروس، باتت مصر تستقبل أعدادا متزايدة من السياح القادمين من أوكرانيا وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية من دون أن تعوض السوق الروسية، بينما لم يجد السائح الروسي بديلا مناسبا لمصر في موسم الشتاء من حيث المناخ والأسعار والقرب الجغرافي النسبي، وفق ما أوضحه سابقا لاعبون في السوق السياحية الروسية لـ"العربي الجديد".