تجليات أزمة مصر... الدولة تاجر أراض

21 أكتوبر 2018
يمكن للدولة التوسع في مشروعات الإسكان الاجتماعي(فرانس برس)
+ الخط -

تضمنت خطة استغلال الأصول المملوكة للدولة في مصر بيع أراض، وبدأت الحكومة فعليا بالإعلان عن طرح بعضها للبيع بالتزامن مع برنامج طرح بعض الشركات بالبورصة، وهو البرنامج الذي يمثل أحد أوجه الخصخصة الجزئية.

وتتعلق هذه الخطوة بتوجه اقتصادي يعتمد على بيع الأصول وانسحاب الدولة من دورها التنموي، كما تعتبر الخطوة تجليا لحالة الأزمة الاقتصادية، التي لا تجد لها الحكومة مخرجاً إلا ببيع الأصول، كما توضح هذه الإجراءات انحياز الدولة لصالح كتل تسعى للسيطرة على الأراضي والأصول بوصفها ثروة قابلة للنقل من "الملكية العامة" وملكية الدولة للقطاع الخاص المصري والأجنبي.

تعلن الحكومة أن الخطوة ضرورية لتوفير حصيلة مالية تساهم في عملية تمويل الموازنة العامة، إلا أننا نستطيع فهم حالة النهم إلى بيع الأراضي في ظل توسع أنشطة الدولة في عمليات البناء والتشييد، كإنشاء مدن جديدة وعاصمة إدارية، ومشروعات إسكانية استثمارية تشيد للصفوة، يتجاوز فيها سعر المتر في بعض المناطق الألف دولار.

ليست المسألة كما يروج لها بأنها عمليات "بناء لمصر"، لأن دخول الدولة في معظم تلك المشروعات يوظف لصالح فئة محدودة جداً من السكان، تعيش معزولة في تجمعات تحيطها الأسوار، ولا يستطيع فيها العيش سوى الأغنياء.

لذا تحمل عمليات بيع الأراضي وتوجيه حصيلتها لمثل هذه المشروعات أوجها متعددة، أبرزها نهب الأصول من أراض تمثل ملكية ونفعا عاما، وهي من جانب آخر تعني إثراء وأرباحا لشركات المقاولات والشركات العقارية الضخمة التي يمتلكها حيتان وأباطرة الإسكان والنشاط العقاري في مصر وعدد من كتل رأسمالية إقليمية ومحلية ترتبط بها، وتعني تحول الدولة من دورها الاجتماعي إلى أدوار متعددة، منها تاجر أراض، استثمار عقاري للصفوة، بينما تتجاهل إمكانية التوسع في الإسكان الاجتماعي على تلك الأراضي.

تشير توصيات البنك الدولي إلى اعتبار الأراضي مصدرا لتسديد فاتورة الاستثمار في البنية التحتية في المدن، بالإضافة إلى كونها تزيد مصادر الضرائب على الأراضي والعقارات، وهذه التوصيات تتوافق تماما مع توجهات الحكومة المصرية، التي ترى في بيع الأصول والأراضي حلا لأزمتها المالية.

تكشف التصريحات الحكومية أن حصيلة بيع الأراضي تراوح ما بين 140 - 170 مليار جنيه، أي أنها قيمة زهيدة قياسا بالموازنة العامة، ما يجعلنا نطرح أسئلة من نوعية: هل من حق الحكومة التصرف في الملكية العامة للشعب وبيعها أو منحها لمستثمرين وقصر حق الملكية هنا على فئة محددة بدعوى الأزمة المالية؟

وهل ستحل عمليات الطرح الأزمة الاقتصادية الحالية، استنادا إلى تجارب بيع وتخصيص الأراضي طوال فترة التسعينيات والتي شهدت فسادا واضحا، حيث منحت الدولة ملايين الأفدنة لمستثمرين ورجال دولة قاموا بالتربح من هذه الأراضي دون توظفيها في أطر إنتاجية، سواء إقامة مصانع أو استصلاح ما يصلح منها للزراعة، حيث تمت إعادة بيعها بعد فترة بأسعار مرتفعة؟

أعلنت الحكومة خلال الشهرين الماضيين عن سلسلة من طرح أراض للبيع في عدة مناطق، وهذا الإعلان يتناقض مع ما سبق وأعلنته على لسان وزير ماليتها هاني قدري خلال 2014 من أن خطط استغلال أراضي الدولة لا تعني بيعها، وإنما سيتم طرحها للتأجير أو الانتفاع لفترات محددة.

يكشف الإعلان عن بيع الأراضي أن نفي نية البيع كان محض كذب، وأن مبرارات بيع الأراضي تحت شعار تجاوز عثرة الاقتصاد وتفكيك أزمته تخفي مصالح أخرى، فهناك من يريد نهب الأراضي، وهناك من يستعد لقبض الثمن، وليس لما يتم من عمليات متاجرة بالأرض علاقة بعملية التنمية، أو حل الأزمة الاقتصادية، بل على العكس سوف يتم تعميقها بهذه الإجراءات مستقبلا، حيث ستحسم تلك الأراضي من رصيد استثمارات الدولة والملكية العامة، وستنتقل إلى آخرين، مصريين أو عرب أو أجانب.

وإذا كان البعض يسأل عن البدائل، فهناك العديد منها، فبدلا من بيع أراضي الشركات غير المستغلة، يمكن توظيفها لتصبح تلك الأراضي معارض تجارية، أو تقام في كل شركة لديها أراض غير مستغلة ورش للتدريب الصناعي عبر التنسيق مع القطاعات التعليمية التي يؤهل طلابها للانخراط في تلك الصناعات.

كما يمكن أيضا بدلا من بيع أراض في سيناء أو غيرها من المحافظات لكبار المستثمرين الذين يركزون على الأنشطة العقارية والسياحية طرح تلك الأراضي للمزارعين بنظام دفع مجدول على سنوات، وهذا يضمن اندماج كتل سكانية في نشاط إنتاجي وتعمير وتنمية حقيقية.

وكذلك الأمر في ما يخص بعض الأراضي الصالحة لإقامة تجمعات سكنية، فبدلاً من بيعها للشركات العقارية يمكن للدولة التوسع في مشروعات الإسكان الاجتماعي لحل أزمة السوق العقاري والذي يحتاج سنويا لما يزيد عن نصف مليون وحدة سكنية، لكن متخذي القرار يعتبرون أن ذلك سيقلل من أرباح مشروعات السكن (العامة والخاصة) حين توفر وحدات للسكن بأسعار معقولة، يستطيع معظم المواطنين عبر تسهيلات الدفع أن يحصلوا عليها.
كما أن طرح أراض زراعية للبيع سواء من هيئة الاستصلاح الزراعي أو غيرها من الجهات، يتناقض مع ما تطرحه الدولة من أهداف طموحة تتعلق باستصلاحها 1.5 مليون فدان، ويكشف التناقض بين رغبة الدولة في زيادة استثماراتها في قطاع الزراعة وبين بيع بعض الأراضي الزراعية، والتي سيستحوذ عليها على الأغلب مستثمرون كبار.

كما أنه ورغم الجهد المبذول في لجنة استرداد أراضي الدولة منذ العام 2014، إلا أن هناك عددا من الحالات التي تشير إلى استحواذ الدولة على أراضي بعض المزارعين الذين استصلحوها، بينما الدولة، وتحت سيف القانون وحجة عدم امتلاك هؤلاء صكوك ملكية أو مخالفتهم قرارات إدارية، ستقوم بطرح تلك الأراضي للبيع لمستثمرين بدعوى عدم امتلاك من استصلحها صكوك ملكية.

وهذا السلوك يكشف عن تناقض وانحياز اجتماعي ضد هؤلاء المزارعين، ويمثل أيضا شكلا من أشكال النهب، فرغم ما قدمه المستصلحون من جهد وعرق وأموال لزراعة الأراضي الصحراوية وتحويلها إلى أراض زراعية منتجة، تقف الدولة أمامهم بسيف التهديد والوعيد.

من المهم هنا الإشارة إلى أن صندوق مصر السيادي، الذي تم إنشاؤه وفقا لقانون أقره البرلمان أخيرا، يسمح بنقل اﻷصول المملوكة للدولة إليه إذا كانت غير مستغلة، والذي يعتبر إطارا قانونيا لحرية التصرف في الأراضي والأصول دون رقابة، وخاصة أن الصندوق ليس خاضعا لأي هيئة رقابية، ما يعني أن حصيلة ما سيتم طرحه للبيع أيضا، سواء من أراض أو غيرها من أصول، لا يمكن معرفة أين ستتجه عوائده بدقة.

في النهاية يمكن التأكيد على عدد من النقاط، أبرزها أن خيارات الحكومة تتجه نحو بيع الأصول، ومن بينها الأراضي، وليس توظيفها في أطر إنتاجية زراعية أو صناعية أو مشروعات إسكانية تحل أزمة السكن، أو مشروعات زراعية تساهم في حل مشكلات العمل والغذاء، وأيضا تتعامل الدولة مع الأراضي بوصفها سلعة للبيع لا أصولا إنتاجية يمكن أن تساهم في عملية التنمية.

وهذا الخيار في النهاية ينقل الملكية العامة إلى ملكية خاصة، ويزيد من ثروات وأرباح الطغم المالية، ويقلل فرص وإمكانيات التنمية المعتمدة على تلك الأصول مستقبلا، سواء في أنشطة الزراعة أو الإسكان، وهنا تقف الدولة في صف كتلة اجتماعية تزيدها ثراء وملكية، وتكثف بذلك الملكية في يد فئات محدودة من المجتمع، وتحرم المجتمع من إمكانيات توظيف تلك الأصول لصالح المجتمع ككل.

المساهمون