اللبناني يكتوي بنار الغلاء مع فشل السلطة بدعم الليرة

29 ابريل 2020
عودة الاحتجاجات أمام مقرّ "مصرف لبنان" المركزي (فرانس برس)
+ الخط -


مع دخول لبنان موجة جديدة من الصراع الهادف إلى رسم خريطة نفوذ جديدة على مستوى القرار الاقتصادي - السياسي، يبقى المواطنون، ولا سيما الفقراء منهم، في صدارة من يدفع ثمن مكابدة ظروف معيشية تزداد شراسة يوماً بيوم، مع الارتفاع الجنوني للأسعار الاستهلاكية من جهة.

يتتزامن هذا الوضع مع تأكّل القدرة الشرائية للعملة الوطنية التي خسرت نحو ثُلثي قيمتها نتيجةالصعود الصاروخي للدولار في السوق السوداء إلى 4200 ليرة من جهة ثانية، وشبه انقراض لتوليد فرص العمل في مقابل موجة تسريح جماعي وفردي لم يشهدها لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية من جهة ثالثة.

فقد استمر تداول الدولار عند هذا المستوى التاريخي حدّاً أقصى للشراء في سوق الصرافين اليوم الأربعاء، وبسعر وسطي بلغ 4100 ليرة، فيما سجل أعلى سعر للمبيع 4100 ليرة وبسعر وسطي بلغ 4 آلاف ليرة.

بينما لا يزال - نظرياً - أقصى السعر الرسمي مثبتاً على 1515 ليرة وبسعر وسطي 1507.5 ليرات، في وقت حدد "مصرف لبنان" المركزي سعر صرف الدولار للتحاويل الإلكترونية الواردة من خارج لبنان عند 3200 ليرة، على أن يُطبق في شركات تحويل الأموال كافة، وهي: "أون لاين لتحويل الأموال" OMT، "بوب فينانس" BOB Finance، "كاش يونايتد" Cash United، "مصري موني إكسبرس" MME، و"أونلاين كاش إنترناشونال" OCI.

الثابت الوحيد هو استمرار جموح الدولار وانعكاسه صعوداً مستمراً في أسعار السلع التي زاد بعضها بنسبة تجاوزت 200%، يقابله فشل ذريع لكل السلطات السياسية والمالية والنقدية والنقابية والرقابية في كبح انهيار الليرة، في حين يوغل المعنيون على مختلف أدوارهم ومواقعهم في تقاذف مسؤولية تفلت الأمور في الآونة الأخيرة على نحو لا سابق له منذ 30 عاماً.
في هذا السياق أتى المؤتمر الصحافي قبل ظهر اليوم، لنقيب الصرّافين، محمود مراد، الذي حذّر من الخروج عن القانون في التعامل مع الصرّافين وتحوليهم إلى "كبش محرقة"، مطالباً بتوجيه قوى الأمن إلى حيث مكامن الخارجين عن القانون، أي الصرافين غير الشرعيّين (الذين لا يحظون بترخيص لمزاولة المهنة من المصرف المركزي)، مع تأكيده أن النقابة تؤيّد تطبيق تعاميم "مصرف لبنان" المركزي (وهي بالعشرات أحصتها "العربي الجديد" في تقرير سابق)، معتبراً أن العرض والطلب هما من يحدد سعر الصرف وليس "ورقة مكتوبة"، لدرجة أن اللوم أصبح يُلقى على الصرّاف إذا رفض بيع دولاراته.

ومع أن حاكم "مصرف لبنان"، رياض سلامة، خصّص مؤتمره الصحافي المتلفز على مدار ساعة كاملة ظهر الأربعاء، أساساً للرد على ما يعتبره اتهامات تُساق ضدّه، أكان من رئيس الحكومة حسّان دياب، أو من بقية الأطراف والمسؤولين ووسائل الإعلام، فقد خصّص جزءاً من بيانه المكتوب سلفاً وتخللته إيضاحات ارتجالية، للحديث عن انهيار سعر الليرة ، كاشفاً عن مسعى مع وزارة الاقتصاد والتجارة لاستحداث آلية تضمن ضبط الأسعار الغذائية الحيوية التي يستهلكها اللبنانيون، بعدما نجحت آلية تمويل استيراد الأدوية والقمح والمحروقات في إبقاء أسعارها مستقرة.

حول هذه المسألة دافع سلامة عن خيار تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، باعتبار أنه "قرار وطني رأيناه في البيانات الوزارية (برامج) الحكومات، ونحن على قناعة به"، مستدلاً على صحة هذه السياسة بالقول: "ثمة تحرّكات لسعر الدولار عند الصرافين وأنتم ترون آثارها على القيمة الشرائية"، مضيفاً: "حافظنا على استقرار سعر الصرف، وهو لا يزال ثابتاً في القطاع المصرفي ويستفيد منه اللبنانيون في عدة أمور".

وبخصوص التدهور الكبير لسعر الليرة عند الصرافين، بدا سلامة متفقاً مع نقيب هؤلاء بالقول إن السعر "يتأثر بالعرض والطلب على نحو أكيد"، متابعاً: "لم نعد نتفرّج، فقد عملنا مع الصرّافين وحاولنا بالقدر الممكن ضبط تحرّك سعر الدولار عندهم، وأقدمنا بالاتفاق مع الصرّافين على خلق وحدة نقدية لدى مصرف لبنان، ونُعدّ لإطلاق منصة تسعير لتنظيم وضمان شفافية السوق، لأننا نشهد اختلافات كبيرة بأسعار وبطريقة التعاطي في هذا الموضوع".
وعن سبب عدم ضخّ الدولارات في سوق لدعم ثبات سعر الليرة عملياً، قال سلامة إن "المصرف المركزي يضخ أوراقاً نقدية، ويجب أن يعرف أين تذهب، وإذا ضخّ بنكنوت وأخدها العمال الأجانب وحولوها إلى بلدانهم، نكون قد قللنا من عرض الدولار، في الوقت الذي نحتاج مزيداً من مخزونه الاحتياطي لدينا".

ولربط هذه العملية بمكافحة الغلاء في الأسواق الاستهلاكية، قال سلامة إن "ما نجمعه من دولارات في المصرف المركزي من شركات التحويل، سنتواصل مع وزارة الاقتصاد والتجارة لنحدّد معاً ما هي المواد الغذائية الأساسية التي يجب أن تموّل بالأوراق النقدية، بحيث إنه بدلاً من ذهاب التجار إلى الصرافين للحصول على الدولارات، يصبح بإمكانهم الذهاب إلى مكان نحدّده بالتنسيق مع الوزارة لفتح اعتمادات بالأوراق النقدية، كي نتمكن من ضبط أسعار ما يحتاجه المستهلك اللبناني من مواد غذائية، بحيث ندعم بهذه الطريقة القدرة الشرائية للبنانيين".

وكان بارزاً في المؤتمر الصحافي إصرار سلامة على تأكيد أنه لن يسمح بإفلاس أي مصرف، لأن المودعين لديه سيخسرون أموالهم فعلاً، وطمأنته المودعين الخاضعين لقيود سحب مشددة في المصارف إلى أن "الودائع موجودة في القطاع، وهي قيد الاستعمال".

وقال: "بإمكانكم أن تراجعوا تحرّك الودائع، فالمبالغ التي استُعملت خلال أشهر الأزمة ولبّتها المصارف هي مبالغ مهمة، بعدما كان ممكناً للأزمة أن تُلغي القطاع المصرفي وتضرّ أكثر بالقدرة الشرائية"، معتبراً أن ما يُساق ضده "افتراء يهدف إلى تضليل الرأي العام، يحاول أن يقول للرأي العام إن القرارات المالية محصورة بالحاكم، ضمن حملة مبرمجة عليّ شخصياً".
كذلك برز في ختام المؤتمر تأكيد سلامة استقلالية المصرف المركزي، إذ قال: "مارسنا سياسات عن قناعة وإخلاص، لكن المهم أنه في كل ممارساتنا ندافع عن استقلالية البنك، والتعاميم نصدرها تبعاً للقانون وتوجهاتنا في السياسة النقدية"، مضيفاً أن "القانون لا يوجب على المركزي أن ينسق مع الحكومة بشأن كل تعميم ينوي إصداره، مع أننا لم نهرب يوماً مما تطلبه الحكومة، لكن القول بأن التعميم الذي يصدر عن المركزي يجب أن يُنسق مسبقاً مع الحكومة فيه مسّ باستقلالية المركزي".

وفي غضون ذلك، تتسارع وتيرة الخطة المالية والاقتصادية الحكومية المقترحة، والتي كانت صباح اليوم الأربعاء محور بحث بين وزير المالية غازي وزني والمنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، وسط تأكيد ضرورة تنفيذ الإصلاحات ليتمكن لبنان من الحصول على مساعدات مالية دولية، وذلك قبل التئام جلسة مجلس الوزراء بعد الظهر برئاسة الرئيس دياب في السراي الحكومية، لاستكمال البحث في الصيغة النهائية للخطة قبل إقرارها المتوقع في جلسة ستُعقد في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون غداً الخميس.

لكن ثمة ثغرة على هذا الصعيد مع جمعية المصارف التي التقى دياب، الأربعاء، وفداً منها وأبلغه بأن خطة الحكومة سيتم إطلاع الجمعية عليها بعد إقرارها في مجلس الوزراء، ليخبر الوفد دياب، في المقابل، أنّ الجمعية ستقدم للحكومة خطتها للحلول خلال 15 يوماً حداً أقصى.
المساهمون