تدحرجت الليرة السورية بشكل متسارع أمام الدولار، وسط حالة انفلات أصابت أسواق الصرافة رغم الإجراءات المشدّدة التي اتخذتها حكومة بشار الأسد، الأمر الذي أدى إلى موجة غلاء فاحش ضربت مختلف السلع والخدمات بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية والمخاطر التي أصابت جميع القطاعات الاقتصادية.
وما ساهم في هبوط الليرة السورية إلى مستويات قياسية سريعا، تعانق القرارات المتضاربة لنظام الأسد، مع تداعيات الأزمة اللبنانية التي ساهمت في تعميق خسائر العملة السورية. وتهاوي سعر العملة المحلية في السوق السوداء من نحو 650 ليرة مقابل الدولار، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى نحو 970 ليرة للدولار، أمس، في حين بلغ السعر الرسمي بالمصرف المركزي 434 ليرة.
وانعكس تهاوي سعر الليرة السورية على أسعار السلع التي ارتفعت بنسب متفاوتة وصلت إلى 35% الشهر الجاري مقارنة بما كانت عليه الشهر الماضي، ما فاقم معيشة المواطنين، بالإضافة إلى شلل التعاملات بالبورصة وعرقلة عمليات الاستيراد وعرقلة القطاع الصناعي.
شظايا الأزمة اللبنانية
وحسب توقعات مراقبين لـ"العربي الجديد"، سيتواصل تهاوي الليرة السورية ولا سيما في ظل تواصل الأزمة اللبنانية التي وصلت شظاياها إلى جيرانها، فبعد أن كان لبنان أحد أهم روافد العملات الأجنبية للبلد المحاصر بالعقوبات الغربية، انعكست الأمور إذ أقبل مستثمرون لبنانيون على شراء الدولار من سورية ما ساهم في ارتفاع سعره وتعميق خسائر الليرة السورية.
واتجهت البنوك اللبنانية إلى فرض قيود مشددة على سحوبات العملة الصعبة والتحويلات النقدية إلى الخارج، وبالتالي حرمان سورية من أحد أهم المصادر للحصول على العملات الأجنبية. ويعاني لبنان من أزمة سياسية واقتصادية كبيرة وسط احتجاجات شعبية متواصلة أدت إلى استقالة رئيس الوزراء، سعد الحريري وأدت إلى أزمة كبيرة في النقد الأجنبي وشح للسيولة المحلية.
وفي هذا السياق، رجّح الخبير الاقتصادي السوري والأستاذ بجامعة ماردين التركية، عبد الناصر الجاسم، استمرار تراجع سعر صرف العملة السورية، ليصل سعر الدولار خلال أيام إلى عتبة الألف ليرة، لأن جميع أسباب انهيار النقد، باتت متوفرة اليوم، بعد تضافر الأسباب الاقتصادية مع النفسية والسياسية.
ويضيف الجاسم لـ"العربي الجديد": جاءت الاحتجاجات بالدول المجاورة، ولجوء كثير من اللبنانيين للسوق السورية لشراء الدولار بعد تحديد ما يمكن سحبه يومياً من المصارف اللبنانية، بالإضافة إلى لجوء التجار السوريين للسوق السوداء لتأمين قيمة عقودهم المبرمة سابقاً، كعوامل إضافية، زادت من نقص معروض الدولار بالسوق السورية.
ويقول الجاسم: أعتقد أن السبب الأخطر هو فقدان الأسد مواقع إنتاج النفط، فبعد التعويل على الانسحاب الأميركي والتنبؤ بعودة إنتاج النفط بما يكفي الاستهلاك السوري، عادت الولايات المتحدة وسيطرت على الآبار، وهذا يعني فاتورة دولارية هائلة سيدفعها النظام لتأمين المشتقات النفطية خلال فصل الشتاء، وقد رأينا بدء آثار الأزمة وطوابير السوريين بانتظار عبوات الغاز والمازوت.
غضب التجّار والصرافين
شهدت بعض أسواق العاصمة السورية دمشق إضرابات لتجار وصرافين ومنها أسواق قدسيا، دمر، الحميدية، الشعلان، ما دفع أجهزة الأمن إلى التدخل وإجبار أصحاب المحال على متابعة عملية البيع والشراء.
وتصاعد سخط التجار بالتوازي مع التهاوي السريع لسعر العملة المحلية التي بلغت أمس 970 ليرة للدولار فاقدة أكثر من 25 % من قيمتها خلال شهر، لتصل إضرابات الصرافين والتجار، بحسب مصادر لـ"العربي الجديد"، إلى مدينة حلب أمس.
ويواجه التجار السوريون هذه الأيام، مزيداً من التضييق، فبعد قرار اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء، بتخفيض تمويل المستوردات وإبقائها على سبع مواد من السلع الأساسية فقط، وإيقاف التمويل عن عددٍ منها بحجة ضبط أسعار السلع في السوق، ارتفعت ما وصفها تجار لـ"العربي الجديد" الإتاوات والمعاناة في تأمين الدولار لتسديد قيمة العقود الموقعة منذ أشهر وقت كانت العملة الأميركية بنحو 600 ليرة سورية.
وقال خازن غرف صناعة دمشق وريفها، ماهر الزيات، في تصريحات صحافية مؤخرا، أول من أمس، إن مكاتب الحوالات والصرافة باتت اللاعب الأساس في سوق الصرف، موضحاً أن الشركات المالية أصبحت تطالب بعمولة لتأمين القطع الأجنبي للمستوردين، وأن نسبة العمولة لا تقل عن 20% مقابل تأمين 200 ألف دولار، وهو الحد المسموح للمستورد بصرفه.
ومن جانبه، يقول المحلل المالي، علي الشامي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "أسواق الصرافة تشهد إغلاقات وامتناعاً عن البيع والشراء، بواقع التهاوي السريع لسعر العملة، وعدم وجود أي مؤشرات على تدخل الدولة، بالتوازي مع طلب الدولار من التجار والمواطنين الذين يبدلون حتى مدخرات بسيطة".
ويضيف الشامي أنّ "سعر صرف الدولار يختلف من منطقة إلى أخرى، ففي إدلب شمال غربي البلاد، لم يزد سعر الدولار عن 850 ليرة أمس، في مقابل تجاوز عتبة الـ900 ليرة بحلب شمالاً والعاصمة دمشق"، معللاً ذلك بزيادة عرض الدولار شمال غربي سورية، جراء التحويلات الخارجية، والأجور بالدولار التي تدفعها المنظمات الدولية للعاملين بها في المناطق المحررة.
قرارات متضاربة
وتأتي القرارات المتضاربة للنظام السوري لتساهم في تهاوي سعر الليرة لمستويات قياسية وسط حالة فوضى أصابت أسواق العملات وتراجع حاد في العملية الإنتاجية ومصادر العملة الأجنبية.
وفيما يحمّل سوريون التجارَ أسباب أزمة ارتفاع الأسعار، يقول الاقتصادي السوري، حسين جميل، لـ"العربي الجديد" إنه "من الخطأ تحميل مسؤولية ارتفاع الأسعار وفقدان السلع للتجار فقط، صحيح أن بعضهم تجار أزمة ويتلاعبون بقوت المواطنين، لكن كثيرين منهم يعانون من القرارات والتخبط، بل ويلزمهم النظام بتأمين بعض السلع ولو خسروا".
ويشير الاقتصادي السوري إلى قرار وزير الاقتصاد بحكومة الأسد محمد سامر الخليل الصادر قبل أيام، والذي يلزم التجار بإيداع نسبة من قيمة مستورداتهم بالمصارف السورية وبالدولار حصراً، ما زاد من عرقلة عملية الاستيراد ودفع التجار للخسائر أو مخالفة القانون. والمقصود هو قرار الخليل، رقم 944، الذي يلزم المستوردين بإيداع نحو 40% من قيمة إجازة الاستيراد في المصارف المخصصة لمبادرة دعم الليرة السورية بعد أن كانت 10%.
صورة الأسد
وما ساهم في تعقيد الأوضاع بأسواق الصرف المشاكل التي تواجه الصرافين للأوراق النقدية التي تحمل صورة بشار الأسد، إذ قال رجل أعمال من مدينة حلب، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد" إن "بعض شركات ومكاتب الصرافة، ترفض التعامل بفئة الألفي ليرة التي تحمل صورة بشار الأسد والألف ليرة التي تحمل صورة حافظ الأسد، اللتين تحويان رقم العملة 1000 و2000 في زواياهما والعملة ذات الخمسمائة ليرة زرقاء اللون، لأن تلك الفئات النقدية فقدت مصداقيتها بالدول المجاورة (لبنان والأردن) ولم تعد قابلة للتداول والتصريف هناك.
وحول ردود أفعال النظام، يضيف رجل الأعمال أن الأمن السوري اقتحم منازل العديد من أصحاب شركات الصرافة المضربين والرافضين تبديل تلك الفئات النقدية، منهم أنس كعكة وخالد حنفية، والوعيد مستمر "لكل من يشكك بالعملة الوطنية التي تحمل صورة الرئيس".
وحذر رجل الأعمال من توقف المنشآت والمعامل بالمدينة الصناعية الأشهر بسورية، عن العمل خلال أيام، في حالة استمرار ارتفاع الأسعار ونقص المواد الأولية، لأن حكومة الأسد فرضت عراقيل جديدة على المستوردين ما دفع كثيرين لإلغاء عقودهم.
غلاء فاحش
وانعكس تهاوي الليرة على أسعار السلع بصورة مباشرة إذ شهدت مختلف المنتجات الضرورية موجة غلاء فاحش.
وقال تجّار من العاصمة السورية عبر الهاتف لـ"العربي الجديد" إن سعر كيلوغرام الأرز بلغ 900 ليرة والسكر 600 ليرة، في حين قفزت أسعار اللحوم بأكثر من 35% مقارنة مع الشهر الماضي، ليصل سعر كيلوغرام لحم الخروف إلى 8500 ليرة والدجاج إلى 1300 ليرة، كما طاول الغلاءُ الخضر والفواكه.
وتكشف مصادر، رفضت ذكر أسمائها لـ"العربي الجديد" أن المؤسسة السورية للتجارة (حكومية) قد أوقفت السلة الغذائية بأسعار مخفضة التي طرحتها الأسبوع الماضي بقيمة عشرة آلاف ليرة، والتي تضم سكراً وأرزاً وعدساً معكرونة وغيرها.
تراجع البورصة وارتفاع الذهب
وانعكست مخاوف تهاوي العملة السورية، على سوق دمشق للأوراق المالية، أول من أمس، و"لم تشهد البورصة أي نوع من أنواع الصفقات الضخمة، فيما بلغ عدد الصفقات المنفذة 77".
وتقول مصادر من دمشق، لـ"العربي الجديد"، إنّ المخاوف سيطرت على المتعاملين في بورصة دمشق فانخفضت قيمة تداولاتها لتصبح حوالي 40 مليون ليرة سورية أول من أمس، بعد ما كانت قد أغلقت، الخميس الماضي، على قيمة تداول بنحو 60 مليون ليرة.
وانخفض مؤشر سوق دمشق بالقيمة السوقية "Dwx" بقيمة تبلغ 27.47 نقطة، ونسبة قدرها 0.50%، وبلغ انخفاض مؤشر الأسهم القيادية المثقل بالأسهم الحرة "Dlx" 5.59 نقاط، ونسبة تغير قدرها 0.65%.
ويشير تقرير البورصة، إلى أنّ أكثر الأسهم انخفاضاً، هي أسهم كل من "بنك الشرق" و"الأهلية للزيوت"، و"فرنسبنك سورية"، و"بنك الشام"، و"بنك سورية الدولي الإسلامي"، فيما لم يكشف التقرير اليومي للبورصة عن أي سهم مرتفع. ولم تجر شركات "آروب سورية"، و"العقيلة للتأمين التكافلي"، و"بنك عوده سورية"، و"بنك بيمو السعودي الفرنسي"، و"بنك سورية والمهجر"، و"المصرف الدولي للتجارة والتمويل"، و"الشركة المتحدة للتأمين"، أي صفقات في السوق النظامية للبورصة، أما السوق الموازية فلم تحصل فيها أي صفقة.
وفي المقابل ارتفع سهر الذهب لمستوى قياسي بسبب الإقبال عليه كملاذ آمن مع تهاوي العملة المحلية، إذ قالت جمعية الصاغة بدمشق، أمس الإثنين، إنّ سعر غرام الذهب عيار 21 قيراطاً، ارتفع بمقدار 4800 ليرة، خلال شهر، بعد أن قفز سعره من 27200 ليرة إلى 32000 بحسب إقفال سعره، يوم السبت الماضي، ليسجل الغرام ارتفاعاً بنحو 15%، خلال شهر، وهو الأعلى في تاريخ الذهب السوري.
وبيّنت الجمعية، أنّ الذهب ارتفع بنسبة 91.4% عما كان عليه، في بداية العام، ليرتفع بمقدار 14500 ليرة من 17500 ليرة إلى 32000، بحسب إغلاق 30 نوفمبر/تشرين الثاني.