السعودية وسيليكون فالي: علاقة حب انقلبت كابوساً

17 أكتوبر 2018
بن سلمان مع تيم كوك مدير شركة "آبل" (Getty)
+ الخط -
كان العالم بحاجة إلى حدث مثل اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، ثمّ تتابع الأخبار حول قتله وإخفاء جثّته، ليعيد طرح أسئلة بديهية حول النظام السعودي وانتهاك حقوق الإنسان في المملكة، وغيرها من الملفات التي تجري كغمامة سوداء فوق حاضر المملكة العربية السعودية ونظام الحكم فيها.

يدرك العالم منذ عقود أن مستوى الحريات في السعودية معدوم؛ فترتفع الموانع ثمّ تنخفض، لكنها تبقى في إطار خانق، يلغي أي إمكانية لحياة سياسية، ثقافية أو إعلامية وفنية، خارج إطار ما يراه النظام مناسباً.

لوهلة بدا أن كل شيء يتغيّر، مع وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد. تسارعت الخطوات التي قيل إنها إصلاحية: حفلات فنية، السماح للنساء بقيادة السيارات، عروض أزياء، نساء في نشرات الأخبار، مشاريع استثمارية خيالية. تهافَت الصحافيون الغربيون إلى المملكة، لتصوير تلك البلاد التي تخرج من ظلمتها المحافظة نحو أيام أكثر إشراقاً وتحرراً. حتى حملة الاعتقالات المجنونة التي قادها ولي العهد الشاب، أعطاها عناوين براقة مثل محاربة الفساد. لكن الجنون السعودي، سرعان ما خرج عن منطقيّته. انتقلت حملات الاعتقال لتطاول ناشطين وناشطات حقوقيات تحت تهم مضحكة أكثر منها منطقية، وأبرزها: العمل والتواصل مع جهات أجنبية، أي قطر تحديداً في هذه الحالة.

لكن كل ذلك لم يؤثّر في صورة محمد بن سلمان الإصلاحية. شركات العلاقات العامة التي تقود حملة لتحسين صورة الرياض في الغرب، إضافة إلى الحملات الإلكترونية على "تويتر" كانت حاضرة دائماً للترويج لصورة الأمير الشاب و"خطواته التاريخية في تحديث المملكة". ومن بين هذه الخطوات كان ضخّ مئات ملايين الدولارات في شركات التكنولوجيا الحديثة في سيليكون فالي بولاية كاليفورنيا الأميركية.



هنا سنعود إلى بدايات العلاقة بين السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان وشركات سيليكون فالي، وصولاً إلى الأيام الأخيرة مع إعلان عدد من أصحاب شركات التكنولوجيا انسحابهم من مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" المقرر انعقاده في الرياض.

البدايات والاستثمارات
قبل وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في المملكة، كانت واجهة الاستثمارات السعودية غير الرسمية في قطاع التكنولوجيا ترتبط بشكل أساسي بالوليد بن طلال. فلشركته "المملكة القابضة" أسهم في شركات عدة بينها "تويتر".

لكن في العام 2017، أعلن صندوق الاستثمارات العامة في السعودية، عن مشاركته في تأسيس صندوق "رؤية سوفت بنك" برأسمال قيمته 100 مليار دولار مخصص بكامله للاستثمار في قطاع التكنولوجيا. ومن أصل الـ100 مليار دولار، تصل استثمارات السعودية إلى 45 مليار دولار تقسمّ على خمس سنوات، على أن تستثمر بمبلغ مشابه في المرحلة الثانية من المشروع. "نحن سوفت بنك، من دون الاستثمار السعودي لا وجود لما يسمى رؤية سوفت بنك"، قال محمد بن سلمان في مقابلة مع "بلومبرغ" مطلع الشهر الحالي. وشركة "سوفت بنك" شركة يابانية تملك أسهماً وحصصاً كبيرة في مجموعة من التطبيقات والخدمات التكنولوجية الشهيرة، أبرزها "أوبر"، "ياهو اليابان"، و"علي بابا".

هذه الاستثمارات أخذت شكلاً واضحاً في في إبريل/نيسان الماضي، أثناء زيارة بن سلمان الرسمية إلى الولايات المتحدة الأميركية، بدا أنّ اهتمامه الأساسي، ومعه اهتمام الإعلام، ينصبّ على الاستثمارات في شركات التكنولوجيا الحديثة في سيليكون فالي.

إذ شوهد يومها متخلياً عن زيه التقليدي، ومرتدياً جينزاً رمادياً مع قميص وسترة، يمشي جنباً إلى جنب مع سيرغي برن أحد مؤسسي "غوغل" ثمّ يتنقّل بين مقرات الشركات الكبرى التي تكاد تحكم العالم اليوم مثل "فيسبوك"، و"آبل" و"أمازون"، و"فيرجن"... وغيرها من الشركات العملاقة. وقد أثمرت هذه الزيارة عن رفع الاستثمارات السعودية في الشركات الشهيرة أو الشركات الناشئة ملياري دولار لشركة "تسلا" و461 مليون دولار لشركة "ماجيك ليب" الناشئة"، مفاوضات للاستثمار بمليار دولار في "فيرجن".



وامتدت علاقة الحب بين محمد بن سلمان وسيليكون فالي إلى حد تعيين جزء من الوجوه البارزة في عالم صناعة التكنولوجيا في المجلس الاستشاري الخاص بمشروع "نيوم" الذي يخطط له بن سلمان. ومن بين هؤلاء المستثمر الشهير في مجال التكنولوجيا مارك أندريسن، والرئيس التنفيذي لوحدة التخطيط العمراني في شركة "ألفابيت" (الشركة الأم لغوغل)، والرئيس التنفيذي السابق لـ"أوبر" ترافيس كالانيك وغيرهم...

اختطاف خاشقجي
لكن وكما يعلم الجميع، "ما كل ما يتمناه المرء يدركه". جاء اختطاف الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وتواتر الأنباء عن قتله داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، ليضعا حداً (قد يكون مؤقتاً وقد يكون نهائياً) لأحلام محمد بن سلمان في مجال التكنولوجيا، أو لنقل ليعيدا طرح الأسئلة البديهية إياها حول العلاقة بين السعودية وعاصمة الصناعات التكنولوجية في العالم.

إذ بداية، أعلن الملياردير البريطاني، ريتشارد برانسون، مالك مجموعة "فيرجن غروب" أن شركته ستعلق محادثاتها مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي بشأن استثمارات مقررة حجمها مليار دولار في مشاريع المجموعة في الفضاء. ثمّ توالت الانسحابات من مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" في مدينة الرياض السعودية المقرر عقده من 23 إلى 25 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، في مدينة الرياض.

وإلى جانب كل ما سبق، فتحت الصحف الأميركية النار على شركات "سيليكون فالي" مطالبة إياها بالاتساق مع الشعارات التي ترفعها، ووقف تعاونها مع النظام السعودي، ورفض المال المقدّم من صندوق الاستثمار العام.

في أيام قليلة تحوّل إذاً، "المنقذ السعودي" إلى عبء ثقيل جداً على الشركات في سيليكون فالي. الصحافي أناند غيريدهاراداس أشار خلال مشاركته في مهرجان "وايرد25" الأميركي إلى أن "الدعم السعودي للتطبيقات الشعبية مثل Uber و Slack و Wag يقدم دليلاً على أن الشركات التي تدّعي المثالية في العالم يسعدها للغاية أن تأخذ أكثر الأموال قذارة على الأرض لتنمو وتكبر".

ما الذي سيحصل الآن؟ ينتظر المراقبون والصحافيون حول العالم الخطوة المقبلة للشركات في سيليكون فالي: هل ستكتفي بالانسحاب من مؤتمر الرياض أو أنها ستتخلى عن الأموال السعودية لتبعد عنها اتهامات "تلوّث أموالها بدماء خاشقجي"، وفق صحيفة "نيويورك تايمز".