انعطافة الإعلام اللبناني: مزيد من التعتيم
(حسين بيضون)
أكثر من 80 يوماً مرّ على انطلاقة
الانتفاضة الشعبيّة اللبنانيّة المطالبة بإسقاط النظام الطائفي الفاسد، تبدّلت فيها الصورة 180 درجة. فبعد الدفق الإعلامي لتغطية ما يحصل في الشارع في بداية الانتفاضة في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اختفت الكاميرات والمراسلون والقنوات اللبنانيّة من الشوارع التي تشهد تحرّكات مطلبيّة، واتّجهت إلى مناطق أخرى لتغطية الخطابات والنزاعات الطائفيّة، مع سعي حثيث لتبييض صورة السلطة عبر استضافة رموزها الأكثر إثارةً للجدل، وامتلاء الشاشات بالمتحدثين باسمها والمرتبطين بها والمنتفعين منها.
بدأ ما يعتبره الناشطون اللبنانيون "تعتيماً إعلامياً" تدريجياً، قبل شهر، لكنّه أصبح نهج هذه القنوات، إذ لم تتم تغطية التحرّكات خلال الأيام الخمسة الماضية، وهو ما يمكن رصده على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال حديث الناشطين عن غياب التغطية رغم وجود تحرّكات، منذ 30 ديسمبر/كانون الأول 2019 الماضي. إلا أنّ "الشعرة التي قصمت ظهر البعير" بين الشعب والإعلام كانت غياب الأخير يوم الأحد 5 يناير/كانون الثاني 2020، رغم زخم التظاهرات وانطلاق مسيرةٍ حاشدة من أمام منزل رئيس الحكومة المكلّف إلى محيط مجلس النواب اللبناني، أكّدت على استمرار الثورة وبقاء الثوار على مطالبهم. وتزامن ذلك مع كثافة "المعلومات الصحافية" التي تحدّثت عن قرب الإعلان عن الحكومة الجديدة هذا الأسبوع، والتي يتوقّع أن تكون من 18 وزيراً، أغلبهم مرتبطون بالأحزاب السياسيّة، لكنّهم وجوه غير معروفة ويتم الترويج لهم تحت عنوان "مستقلّين"، ما يرفضه المشاركون في الانتفاضة.
وتسبّبت عدة عوامل في انخفاض وتيرة التظاهرات الشعبية اللبنانية، بينها العاصفة التي شهدتها البلاد واستمرّت أسبوعين دون توقف، بالإضافة إلى أسبوع الأعياد، وهروب الرئيس التنفيذي السابق لشركة "نيسان"، كارلوس غصن، من اليابان إلى لبنان؛ وأيضاً التطورات الإقليميّة - العالميّة التي تهدد بنشوب حرب عالمية ثالثة جرّاء التوتّر المستمر بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران على خلفية مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، جرّاء غارةٍ أميركية بطائرة مسيّرة في بغداد، يوم الجمعة الماضي. ولبنان في صلب هذا التوتر، كون الطبقة السياسية دعمت غصن؛ في ظلّ التهديدات التي أطلقها أمين عام الحزب، حسن نصرالله، يوم الأحد، في احتفال تأبين سليماني تزامناً مع تأبينه في إيران، وبينها ضرب قواعد عسكريّة أميركية رداً على الاغتيال. وتنشغل القنوات بكل تلك الملفات، وبمقابلات خاصة تعدّها مع السياسيين، ما فتح باب الأسئلة الواسع على "تويتر"، إذ أغرق اللبنانيون الموقع وصفحات القنوات بأسئلة حول التعتيم الإعلامي وغيابها عن التغطية وتأثير ذلك على نشر اعتقاد أنّ الثورة انتهت وأنّ الثوار عادوا إلى منازلهم. وعزّز تلك الشكوك تزايد عدد الدعاوى والقضايا المرفوعة ضدّ الناشطين والصحافيين اللبنانيين أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة، في محاولةٍ لإسكاتهم وإسكات الشارع من خلفهم.
وكان التحوّل في أداء القنوات تحديداً واضحاً قبل فترة من "انقطاعه"، إذ تحوّل الصحافيون والمراسلون إلى "حراس أخلاق" وموجّهين للناشطين، فيقولون لهم ما يجب أن يصرّحوا به على الهواء، وما الصح والخطأ، ويعتذرون عن تصريحاتٍ تعبّر عن فئة واسعة من الشعب، تحديداً عن التبليغ عن حوادث الاعتداء عليهم من قبل القوى الأمنية وعناصر الجيش اللبناني. وفجر السبت الماضي، قام عناصر أمنيون بتدمير وتمزيق خيمة اعتصام في ساحة الشهداء وسط بيروت، ومنعوا التصوير خلال قيامهم بذلك، من دون معرفة السبب حتى الآن.
واستمرّت القنوات بإرسال تنبيهات عبر تطبيقاتها عن بعض التحركات وليس جميعها، فيما وُصف ناشطون رفضوا القيود المصرفيّة المجحفة الموضوعة على اللبنانيين، بالمخرّبين والمشاغبين، من قبل وسائل إعلاميّة دافعت عن المصارف وشيطنت الناشطين رغم حقّ المودعين بالحصول على أموالهم وعدم قانونيّة إجراءات المصارف.
يُذكر أنّ هذا الأداء الإعلامي ليس بغريب عن القنوات والصحف اللبنانيّة، فهي عادةً ما تروّج للسلطة وتشبّك معها وتحرص على عدم استعدائها، كون القنوات والصحف أيضاً تستفيد من هذا النظام عبر قروض وصفقات، بالإضافة إلى الإعلانات التي تشكو القنوات من قلّتها، وكان أبرز المعلنين فيها سابقاً من القطاع المصرفي. وفي السياق، تستمرّ وسائل الإعلام اللبنانية بالإجحاف بحقّ الصحافيين والموظفين فيها، عبر عدم دفع مرتباتهم الكاملة، بالإضافة إلى القيود المصرفيّة التي تشملهم. وبدأت قناة "أو تي في" بدفع نصف مرتب مقابل نصف دوام عمل، حسبما نقلت وسائل إعلاميّة لبنانيّة، الإثنين. إلى ذلك، تستمرّ الأزمة في قنوات "أم تي في" و"الجديد" و"أل بي سي"، والتي أدّت إلى عدم تقاضي الموظفين لرواتبهم كاملةً طوال الأشهر الثلاثة الماضية، بحجة الأزمة الماليّة، فيما كانت تلك القنوات ترفع عنوان الثورة، إلا أنّها عادت سريعاً لتتحوّل عن هذا النهج عبر استغلال المراسلين في العمل لساعات عمل طويلة، والتشبيك مع النظام، بالإضافة إلى توجيه المواطنين عند استصراحهم.