مؤتمر تونس: كيف نحمي الصحافة من العابثين بها؟

11 يونيو 2019
من اعتصام سابق لصحافيين تونسيين (شاذلي بن ابراهيم/NurPhoto)
+ الخط -
تونس عاصمة لحرية الصحافة. تلك حقيقة فعلية لا يمكن التشكيك فيها. ذلك لا يعني أنّ الانتهاكات والمضايقات قد توقفت بشكل نهائي، فهي مستمرة ومتعددة الأشكال والمصادر، لكن لم يعد بالإمكان كسر قلم الصحافي أو إسكاته أو كسر آلة التصوير أو وضعه بالسجن بتهمة ترويج أخبار زائفة وتهديد الأمن القومي. لم يعد وارداً إخفاء الحقائق وكتمان الشهادة وتضليل التونسيين وإجبارهم على الاستماع للرأي الواحد والصوت الوحيد. 

لهذا السبب، يجتمع في تونس اليوم 300 قيادي نقابي يمثلون 600 ألف صحافي في العالم وينتمون إلى 187 نقابة وجمعية صحافية من 140 دولة للمشاركة في فعاليات المؤتمر الثلاثين للاتحاد الدولي للصحافيين في الفترة الممتدة من 11 إلى 14 يونيو/حزيران الجاري، تحت شعار "من أجل صحافة حرة". يعتبر هذا الحدث الذي سيتم بدعوة من النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين الأول من نوعه الذي سيتم في الشرق الأوسط وأفريقيا. كما سيتم بهذه المناسبة تنظيم مسيرة تضامناً مع الصحافيين الذين يقتلون في كل بلدان العالم لأسباب متعلّقة بأدائهم لمهنتهم. ففي تقرير صادر عن لجنة حماية الصحافيين كشف أن عدد الصحافيين الذين استهدفوا بالقتل بسبب تغطيتهم الصحافية خلال عام 2018 المنقضي قد تضاعف مقارنة بالعام السابق.

مع ذلك، هناك وجه آخر لحرية الإعلام. يمكن أن توظف هذه الحرية ضد الأهداف التي يضحي من أجلها الصحافيون والديمقراطيون والشعوب عموماً. يمكن أن توظف حرية الصحافة ضد الثورات، وأن تساهم في رفع نسبة العزوف لدى المواطنين عن السياسة وعن المشاركة في الانتخابات أو الاهتمام بالشأن العام. ويمكن اعتبار تونس مثالاً على ذلك.

في عهد الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، كانت الممارسة الإعلامية الحرة مهنة جريئة يحظى أصحابها بالتقدير والاحترام. كان الصحافي المستقل والشجاع يمكن أن يتحول إلى عامل تهديد لاستقرار النظام و"مناعته". ولهذا تسخر له أجهزة أمن الدولة "استراتيجية" كاملة لمقاومته وإسكاته. أما اليوم، فيمكن لهذا الصحافي وغيره أن يكتب ما يشاء، وأن يكشف ما يعتبره أسراراً خطيرة لهذا المسؤول أو ذاك الحزب الحاكم دون أن يثير اهتمام المواطنين أو يؤدي إلى تفاعلهم الضروري للإطاحة بمن يحكم.

عادت بعض الممارسات القديمة رغم غياب الدكتاتور وموت الرقيب. لم تعد البرامج السياسية بما في ذلك الحوارات التي يشارك فيها " كبار" السياسيين تشهد نفس الإقبال الذي عرفته خلال السنوات الأولى من الثورة. أصبح جزء كبير من المشاهدين يغيّرون القناة أو يلجأون إلى الفضائيات الأجنبية خاصة الفرنسية منها كوسيلة للهرب من صراخ السياسيين والمهرجين.
دمرت هذه البرامج أعصاب التونسيين، وزادت من عدد الذين لجأوا إلى الأطباء النفسيين، وتضاعفت الحساسية لدى المواطنين ضد الأخبار السيئة، كما تراجعت نسبة الحصانة النفسية لديهم التي كانت تقيهم من التوتر المتواصل وتجعلهم قادرين على حماية توازنهم الذاتي.
لكن هل الصحافيون مسؤولون عن هذه الأوضاع المزعجة؟ الدفاع عن حرية الصحافة لا يعني تبرئة كل الصحافيين وعدم تحميلهم جزءا من مسؤولية الأزمة القائمة. لكن في نفس الوقت يجب ألا يتحولوا إلى مشجب تُلقى عليه كل الأخطاء والممارسات السيئة التي يقوم بها الآخرون.

يعتقد نقيب الصحافيين التونسيين ناجي البغوري، في تصريح خاص بـ"العربي الجديد"، أنّ حرية الإعلام أصبحت مكسباً حقيقياً، لكن في المقابل هناك ثلاث مخاطر تهدد هذه الحرية في تونس. أولها الفشل إلى حد الآن في تربية جمهور نوعي يكون قادرًا على حسن التعامل مع وسائل الإعلام. جمهور يحترم حقوق الإنسان، ويكون قادراً على مقاطعة أي وسيلة تتعمد انتهاك الضوابط المهنية. فالجمهور من وجهة نظر النقيب هو الضامن لحماية هذه الحرية من الانحراف.

التحدي الثاني عنده هو دعم الخبرات لدى الصحافيين المطالبين قبل غيرهم باحترام ضوابط المهنة. هم يرعون النقاش وليسوا طرفاً فيه. وعند الحديث عن الصحافيين فذلك يسري بالضرورة على وسائل الإعلام التي يعملون بها.

أما الخطر الثالث فيلخصه البغوري في المال السياسي الذي دخل بقوة في المجال الإعلامي، وأصبح يتمتع بقدرة واسعة على التحكم في القطاع من خلال ما يسمى في تونس بـ "الاستشهار" (أي توجيه الإعلانات أو منعها عن هذه المؤسسة أو تلك). إذ نظراً لغياب الشفافية في هذا المجال أصبح بإمكان أصحاب المال السيطرة على المؤسسات الإعلامية وتوجيهها.

هكذا، يتبيّن أنه لا يكفي تحقيق حرية الصحافة باعتبار ذلك شرطا أساسيا لقياد الديمقراطية، وإنما يجب أن يستمر النضال حتى لا تتحول الحرية إلى وسيلة من وسائل الثورات المضادة القادرة على توظيف الحق إلى وسيلة للفوضى والتخريب.
المساهمون