كان الموسم الثالث من مسلسل Succession، واحداً من أكثر الأعمال المنتظرة، التي تسبب فيروس كورونا بتأجيلها؛ فعلاوةً على النقطة المتوترة التي توقف عندها الموسم الثاني، وشكلت ما يشبه إعلان الحرب، شكلت سنة الانتظار الإضافية فرصة للعديد من المتابعين الجدد لكي يشاهدوا العمل ويترقبوا موسمه الجديد، وماذا سيقدم ليكمل حكايةً وصلت إلى مستوى يبدو للوهلة الأولى أنه سيتطلب حدة وسرعة تفوق تلك التي ميزت الموسمين السابقين.
اليوم، ومع نهاية الموسم الثالث، وحصوله على جائزة "غولدن غلوب" لأفضل عمل درامي، يمكن للمشاهد أن يعود ويتأمل المسار العام بهدوء، بعيداً عن انتظار صدور الحلقات مرة كلّ أسبوع، كوحدات منفصلة، ويبحث عن طابعٍ أو سمة عامين لهذا الموسم وكيف يرتبط بما سبقه.
الغرق والتحلل والتحول
كما أشرنا في البداية، ساد اعتقاد أن الموسم الثالث سيكون أكثر سرعةً وكثافة، تماشياً مع المستوى الذي رسمته نهاية الموسم الثاني وشكل الصراع ضمن الأسرة. إلا أن الموسم الثالث لا يمشي وفقاً لإيقاع كهذا، فباستثناء ما يجري في بدايات الموسم، سيعرف المشاهد أنّ العمل في هذه المرحلة يلتفت نحو زوايا أخرى، وأن الإجابة الحاسمة والشافية عن السؤال الذي طرح بنهاية الموسم المنصرم لن تحضر بالضرورة (وذلك في حال كان السؤال نفسه لا يزال يُطرَح).
فمنذ الحلقة الأولى، نجد كيندال وقد أغرق نفسه في حوض استحمام فارغ، بعيداً عن أي تصور للمحارب الذي يفترض أن نلمحه. تعطي هذه الإشارة لمحةً عما يجب أن نتوقعه، فرغم كل محاولات إثارة الضجيج التي يحدثها كيندال بشكلٍ متقطع، يبدو الابن الأكبر (من الزواج الثاني، كما يؤكد كونور بقوة)، أنّه أقرب إلى تدمير ذاته هذا الموسم من أي محاولة لتدمير أبيه أو أي خصمٍ آخر.
وبينما لا يمكن اعتبار هذا المسار جديداً، بل ملازماً لشخصية مثل كيندال، فإنه في الموسم الثالث يطبع هذه الشخصية بسمتها الرئيسية. فحتى خلال الحلقات الأولى، حين كان التحقيق في ممارسات الشركة لا يزال يحظى بثقله ويهدد الوضع القائم، كان كيندال - المنتشي بما يفعله - يبدو كلّ مرة كأنّه على وشك ضرب كلّ ما قام به سابقاً، ومعه فرق المحامين واختصاصيي "الصورة"، حتى يصل إلى الهوس بتدمير صورته افتراضياً. وعلى أثر الصدمات الأكثر قوة، كرسالة شقيقته شيف، وفشل مساعيه والمواجهة مع لوغان، فإن نزعة التدمير هذه تعود وتهدد كيانه الفيزيائي، إلى أن يصبح الغرق مادياً وحقيقياً في نهاية الموسم.
إنّ هذ التحلل، الذي يجيد الممثل جيريمي سترونغ (غولدن غلوب أفضل ممثل) التعبير عنه بكل أداة ممكنة، يصيب بعض الشخصيات الأخرى بطرقٍ مختلفة هذا الموسم، كرومان وشيف وغريغ على سبيل المثال. ولا نقصد بذلك طارئاً يهدد كيانهم، كما في حالة كين، بل ابتعاداً عن الأدوار التي أنيطت إلى هذه الشخصيات في الموسمين السابقين، لتفقد معها كل ما يمكن أن يثير تعاطف المشاهد أو يدفعه للانحياز إلى عملٍ يخلو من الأبطال أو "الأناس الجيدين".
ففي حالة رومان، نجد هذا الموسم شخصيةً مختلفة تماماً وأكثر تركيباً بعد التغير في ديناميكية العلاقة مع رأس الأسرة. ولنتأمل ما تغير بين أول ما نعرفه عن رومان، وما يبديه في الموسم الثالث: في الحلقة الأولى من المسلسل، يعرض رومان على طفلٍ مبلغ مليون دولار مقابل الفوز في لعبة بيسبول، ما يثير حفيظة باقي أفراد الأسرة ويدفعهم لاحقاً لرشوة والدي الطفل. نعرض هذا المثال لأنه يلخّص الانطباع العام والأول عن رومان، بوصفه مجرد نذل ثري آخر ضمن هذه الأسرة من جهة، وأكثرهم قدرة على إبداء سمات هذه الأسرة بشكلٍ غير جدي من جهة أخرى. ورغم أننا سنتعرف تدريجياً إلى بعض الأسباب التي ساهمت في تكوين رومان بهذه الطريقة، فإنّ المشاهد يمكن أن ينسى هذه الأسباب القابعة في الخلفية، وينهمك في متابعة العرض الرئيسي على الشاشة، الذي غالباً ما ينجح رومان في تقديمه.
في الموسم الثالث، يبقى رومان شخصية تستطيع تحريك العرض، ويحافظ على حدته وحيويته ونكاته التي لا يعقل أن يطرحها أحد في أي ظرف. إلا أن ثمة تغيراً هائلاً؛ فهذا الدور، وإن بقي رئيسياً لدى رومان، لم يعد الوحيد الذي يحدده. ففي الموسم الثالث، تنمو أنياب رومان فعلاً، ويصبح أقرب ابن إلى لوغان. ومع هذا التغير في التراتبية وإطلاق حرية رومان، نراه يختار مرشحاً رئاسياً شبه نازي، ويحسم صفقات (كما يعتقد)، وتقف فظاظته بين الحد الذي لا يزال مضحكاً، وذاك الذي يصبح شديد الخطورة، كما في حلقتي اختيار المرشّح لرئاسة الولايات المتحدة، وعيد ميلاد كيندال، اللتين يتوحش رومان في نهايتهما، ما يجعلنا نتساءل عمّا إذا كنا قد أفرطنا في التساهل مع شخصية لا يمكن أن نتساهل معها في الحياة الحقيقية.
أضاف هذا الموسم شيئاً من الإيضاح في ما يخص علاقة رومان بمحيطه أيضاً، كالمفاجأة التي تصيب المشاهد حين يدرك أنّ رومان في الحقيقة أكثر الأبناء اكتراثاً بمصير أبيه وصحته، وحتى في الحلقة الأخيرة، حين يسمح لبعض الحبّ الأخوي بالظهور، وإن كان ذلك بطريقته الملتوية.
أكثر من ذلك، يرافق هذا التغير مزيد من الإيضاح للأسباب التي جعلت رومان بهذا الشكل، كالقسوة التي رافقت نشأته، ونحصل على جرعة منها مع تقرّب الابن من لوغان، وبالتالي حصوله لا على مزيد من الامتيازات وحسب، بل المزيد من القسوة التي يعتقد رأس الأسرة أنها ضرورية لتجهيز ابنه أيضاً، ما يعقد ويكثف من بناء هذه الشخصية، ويجعلها رابحةً هذا الموسم.
يتضح هذا الكلام بصورة أفضل في حالة غريغ. لطالما أثار القريب البعيد للأسرة التساؤلات عن تركيبته، والاستقطاب بين متابعي المسلسل، الذين إما أن يعدوه أكثر الشخصيات خنوعاً وهلامية، أو يتعاطفوا مع سذاجته وبراءته أحياناً. في هذا الموسم، يبدأ المحيط بتلقين دروسه لغريغ، الذي يعقد في نهاية الموسم تحالفاً جريئاً، بعد تطور علاقته بتوم، ويبدأ بالنظر إلى نفسه بطريقة مختلفة، كما نلحظ في مغامراته العاطفية.
وبين كلّ الرابحين، يبرز توم هذا الموسم؛ إذ إنّ تطور شخصيته مرّ بمراحل مفصلية عدّة، ساهمت في تبرير قراره الكبير في الحلقة الأخيرة، وتبدو أكثر الشخصيات إخلاصاً لماضيها ومسارها. لن تخطئ عين المشاهد هذا التطور خلال إعادة العمل الآن، فمع كل لحظة تقسو فيها شيف عليه، يتولد لدى المشاهد شعورٌ بأنّه سيتحرك لتغيير شيءٍ ما، ويتعاظم هذا الشعور في نهاية الموسم الثاني، حين يتساءل عما إذا كان وضعه سيصبح أفضل في حال تركها. لا شك أنّ طبيعة توم تساهم في إطالة حدوث هذا التغير، إضافةً للقلق الذي كان يساوره حيال دخوله السجن وتغير حياته، إلّا أنّ كلّ الأدلة كانت مزروعة طوال الطريق لما سيقوم به ويغير من طريقة تلقينا له.
لكن، هل تحلل العمل أيضاً؟
لا يخرج الجميع رابحين من هذا الموسم. فكما تحظى بعض الشخصيات بفرصةٍ لتنمو وتتعقد خلال هذا الموسم (وقد تكون أبرزها شخصية توم، الذي يحصل في الحلقة الأخيرة على محطة مهمة في تطور شخصيته ومتماشية مع كل ما جرى معه سابقاً)، تخرج بعض الشخصيات وعناصر العمل خاسرةً بعض الشيء.
ولنبدأ من شيف. مرّت الابنة الوحيدة بمسارٍ مثير للاهتمام في الموسمين السابقين، سواء كابنة وحيدة في عالمٍ ذكوري ورجعي كهذا، أو كنقيض لإخوتها، وهي نقطة نجح المسلسل في كشف زيفها عبر مواقف عدة وانتقالها التدريجي من العمل في السياسة والاقتراب من الشركة والأسرة، وعلى لسان إخوتها، وكزوجة تتلاعب بمصير زوجها وتحدد ماهيته، وليس العكس.
في الموسم الثالث، تدخل شيف في تكرارٍ لا طائل منه وغريبٍ عن هذا المكان الذي يُعدّ "القتلة" عادةً. فمع كل حلقة يلفظ فيها لوغان ابنته، أو يعدها بشيء ثم ينكره، يتساءل المشاهد وفقاً لمنطق بناء الشخصيات الذي يعرفه عن دور هذا التراكم في تطوير الشخصية، ثم يُحبَط حين يراها تعيد الكرّة نفسها، من دون تغيير.
يمس هذا العطب عناصر أثارت الحساسية في ما مضى أيضاً، كالتحقيق في ممارسات الشركة الذي يفضي (حتى اللحظة) إلى مجرد غرامة مالية، رغم كل الترقب الذي أحدثه في ما مضى، وينتهي في ما يشبه الصفعة البسيطة بنهاية الأمر، أو اجتماع حاملي الأسهم وتحالف جوش وستيوي، الذي لا يرتبط هو الآخر بشيء، ويحجّم من شخصية جوش أيضاً، التي تعطي انطباعاً بأنها مجرد ذريعة لاستقبال ضيف شرف بحجم أدريان برودي. فضلاً عن تفاصيل باتت مكررة، كتدهور حالة لوغان الصحية خلال الأحداث المهمة، أو صفقات الاستحواذ التي تتغير في اللحظات الأخيرة دائماً.
ولا شك أنّ هذه المشاكل أضعفت العمل، وتركت الموسم الثالث عرضة لمقارنات ربما يخسرها مع الموسمين السابقين. هل يعني ذلك سقوطاً للعمل؟ لا، فكما أسلفنا، يقدم الموسم الثالث الكثير على الجهة الأخرى، وربما تكون المسألة متعلقة بالمستوى الذي رسمه المسلسل لنفسه في السابق، أو الاندفاع الذي تابع به الكثير من المشاهدين العمل في موسميه السابقين، ثم عادوا هذا الموسم لانتظار صدور حلقاته بالقطارة أسبوعياً. وفي كلّ حال، فإنّ شبكة "إتش بي أو" أكدت تجديد العمل لموسمٍ رابع، ما يعني فرصةً لتدارك هذه الثغرات، وإعادة العمل إلى المستوى الذي حقق له شهرة ونجاحاً مستحقين في السنوات الماضية.