The Kingdom Exodus... زيارة لكوابيس لارس فون ترير

23 ديسمبر 2022
يصوّر المخرج مسلسله كما لو أنه عمل وثائقي (آي إم دي بي)
+ الخط -

تظهر عبارة "كلّ شيءٍ مسروق" في اللقطة الختامية من مسلسل The Kingdom Exodus لمخرجه لارس فون ترير. بهذا التصريح، يُختتم العمل الذي يُعتقد أنه سيكون آخر نتاجات المخرج الفذ، بعد تشخصيه بداء باركنسون أثناء إنتاج المسلسل، وإفصاحه عن التشخيص في أغسطس/آب الماضي.

يستعصي الفصل بين الشخصي والفني في مسيرة فون ترير الذي أمضى سبع سنوات من حرمان الحضور إلى مهرجان كانّ السينمائي على خلفية تصريحاته المتعلقة بالنازية. وسبق أن طاولته اتهاماتٌ بالتحرّش من المغنية بيورك أثناء بطولتها لفيلمه Dancer in The Dark. يستمر هذا التداخل بين أفلامه السابقة وتعقيدات حياته في الموسم الجديد من مسلسله الدنماركي الذي صنعه في التسعينيات.

ينسب ترير الفضل في إلهامه لهذا المسلسل إلى Twin Peaks للمخرج ديفيد لينش، إذ قدّم الأخير عملاً يوائم بين السلاسل التلفزيونية وطبيعة العلاقات الرومانسية، في بلدةٍ هادئةٍ مع جريمة قتلٍ ذات بُعدٍ شيطانيٍّ. اختار ترير مستشفىً ليخوض مغامرته الشيطانية. تُفتتح كلّ حلقة باقتضاب بإشارة إلى أن مشفى "المملكة" قد شُيّد على أنقاض مستنقع الخلق، بعد أن خلا العالم من الروحانيات وساد العلم كل التفاصيل. لا تخرج الكاميرا المهتزّة خارج المكان إلّا ما ندر، وتصطبغ الألوان بتأثير "السيبيا". يشابه المسلسل في تصويره الشكل الوثائقي، من دون تحدث الشخصيات للكاميرا. نموذجٌ لكوميديا مكان العمل التي يقترب منها في كثير من اللحظات، إلّا أنه أكثر إيغالاً في الرعب والغرائبية.

أُنتج موسمان عامي 1994 و1997، وإن كان لم يحظ The Kingdom Exodus بشهرة عالمية كما Twin Peaks، إلّا أنه لقي مصيراً مشابهاً في الإلغاء، بعد رحيل ممثلين أساسيين، أحدهما بطل المسلسل، قبيل الإنتاج. قيَض للمسلسل اقتباسٌ أميركي بإشراف ستيفن كينغ، ولم يستمر سوى لموسمٍ وحيد من دون نجاحٍ يُذكر.

صاحب ثلاثيتيّ أوروبا والاكتئاب، عاد ليكمل المملكة كثلاثيةٍ من إنتاج خدمة البث MUBI. وإن كان لا يُنكر أن الاحتمالية أتت بعد النجاح النقدي لتجربة لينش بالعودة بعد ربع قرن لمسلسله الأثير، إلّا أنه يؤكّد أنه كان يمتلك نهايةٍ عند توقّف مسلسله بعكس المسلسل الأميركي.

يبدأ الموسم الجديد مع كارين، إذ تشاهد نهاية الموسم الثاني منزعجةً من الخاتمة غير المرضية، وتذهب سائرةً في نومها إلى المشفى لتقوّم المسألة. نجد أنفسنا أمام حكاية تتحدى القصة الأصلية، وتخالف حبكاتها، وتستعير منها شخصياتٍ أو أشباهاً لهم. نفتقد منذ البداية التوازن السابق للمسلسل، باحتكامه لحبكة محددة ومسار أحداثٍ مستقيم، إلى جانب شخصياتٍ جانبية، ومردّ ذلك لطبيعة عرضه التلفزيوني سابقاً، مع وضع نهايات مشوّقة للحلقات وتدرّجٍ بالكشف عن خبايا المملكة. أمّا هنا، فيسود المناخ الكابوسيّ، ونكتفي بنقاطٍ على الطريق من دون تفسير في الغالب لحركة الشخصيات حضوراً أو اختفاءً، وفي أحيانٍ كثيرة نجد المسلسل في صراعٍ مع نفسه، كعملين يتقاطعان في الهوامش يعطّل كلُّ منهما الآخر، ويحملان إمضاءً واضحاً ككابوسٍ متكرّر، وليس للمتفرّج أن يعاند تدفق المشاهِد بحثاً عن قصةٍ أو تفسير.

خلال الحلقات الخمس تفيض الشاشة بإعادة مشاهد من أفلام فون ترير السابقة، في طليعتها Antichrist واقتباس تقنياتٍ وبنىً حكائيةٍ منها مثل Dogville. تصمد مشهديّة الجوقة في الرؤية الجديدة للمسلسل، مع استبدال أطرافها، بعد أن كانت من طفلين مصابين بمتلازمة داون، تتحول إلى قزمٍ وروبوت يعلقّان على الأحداث، وينذران المشاهد بما سيأتيه تباعاً أثناء غسلٍ لانهائيّ للأطباق.
يحضر أيضاً، باحتفاءٍ، إعادةُ مشهد رقصة الموت، من رائعة إنغمار بيرغمان The Seventh Seal.

تمثلت إحدى خصائص المسلسل الأصلي بظهور مخرجه نهاية كل حلقة، ليؤطّر ما شاهده الجمهور مع رؤية ظلامية فلسفية للحياة، حاثّاً المشاهد بعنفوان الشباب إلى تقبّل الخير مع الشر في مسار الأحداث والحياة عموماً. في الموسم الجديد نستمع إلى صوت ترير الهرِم خلف ستارة؛ صوتٌ أكثر حكمة وأقلّ ضجيجاً ذكورياً مما سبق، مع التأكيد مجدداً على أخذ الخير مع الشر.

امتلك المشفى ما يحتاجه فون ترير كخلفيةٍ لمقولاته، فهو مكانٌ معتّقٌ بالصرخات والدعوات. للموت والحياة رتابة خاصة هنا. وهذا مكّنه من طرح أفكاره حول الموت والخلق والتديّن والبيروقراطية؛ هزلًا وغرائبيةً، مع تشويهٍ كافٍ للعالم الذي نعرفه، من دون أن يحتاج المسلسل أطروحةً واضحةً لهذا العالم البديل.

جرى العرض الافتتاحي للمسلسل خلال مهرجان فينيسيا الأخير، وطرحت حلقاته توالياً على شبكة MUBI لينتهي مع عيد الميلاد، كما سيرورة الأحداث التي تضع عيد الميلاد كحدٍّ فاصلٍ قبل الكارثة، يمارس فون ترير خياراً طقسيّاً في المشاهدة.

ينتصر المسلسل للروحانية أمام العلم، تاركاً أسئلةً واخزة عن مقدرة الطب وأخلاقيّاته، إلى جانب قدرٍ مهولٍ من السخرية عبر طرح مفاهيم التفوق الأبيض-الأبيض، وإيروتيكية العلاقة مع الأسلحة، وسُبل البشر الحالية للتعامل مع الصوابية السياسية.

عنون ترير ما استطاع ممما نوقش حوله وحول منتجاته السابقة، ولا بدّ من الإقرار بأن هذا بحدّ ذاته حاجزٌ أمام المشاهدة. على الجانب الآخر هي دعوة للاقتراب، وتجربة شعورية لإشكالياته الكبرى، عبر مقدرته الوحيدة على الإدلاء بمكنونات حياته من دون هوادةٍ -كما اعتاد- فنّاً بديعًا.

المساهمون