نادرة هي الحالات التي يعلو فيها صوت الجمهور في السينما، متفوقاً على صوت ما يشاهدونه، خصوصاً الشهقات والضحكات والصراخ المفاجئ؛ فلا فائدة من إسكات بعضنا بعضاً في الصالة المظلمة، إذ إنّ الجميع يترقب ولا يصدق ما يراه، متخيلاً حجم الألم الذي يقع على من يشاهدهم. لكن هذا ما يحصل عند مشاهدة فيلم "الأحمق إلى الأبد" (Jackass Forever) في صالة السينما؛ الجزء الجديد من سلسلة الشهيرة، التي بدأت كمسلسل تبثه قناة الـMTV في مطلع الألفية، وتحولت إلى ظاهرة عالميّة لم تشهد أفلامها المتتالية الكثير من النجاح في السنوات الأخيرة.
الملفت في هذا الجزء، هو سنّ البطلين؛ ستيف أو، وجوني نوكسفيل، اللذين قاربا الخمسين؛ فجسداهما مليئان بالكدمات وآثار الكسور بسبب الأجزاء السابقة والمخاطر التي يضعان نفسيهما فيها. ومن المفترض أنّ عمر الخمسين حدٌّ جسدي، لا يجوز تخطيه، كون الضرر الجسدي الذي سيقع عليهما قد يسبب عطباً دائماً. مع ذلك، سلسلة الأفلام ما زالت مستمرة، ففي اللقطات النوستالجية في العمل، التي تصور الفريق منذ عشرين عاماً، لا تختلف الحماسة والتهور و"الحماقة" عما نراه الآن، كأنّ المقالب لا تعرف عمراً، أو حدّاً من الكسور الجسدية.
يطرح الفيلم سؤالاً ساخراً، مفاده: "كيف ستكون المقالب في الفيلم وأعمار المؤدين في الخمسين؟". الجواب: "أكثر نضوجاً". بالطبع، لم يتغير شيء، ما زال الضرب على الخصيتين قائماً، وإطلاق قذيفة بشرية من مدفع عملاق حاضر، فيما مواجهة الأفاعي لم تُشطب من القائمة. لكن الملفت، هو إحكام صناعة الآلات في الفيلم، وأسلوب عملها المتقن، فالمقالب لم تعد قائمة على "تعذيب الذات" أو المخاطرة بالجسد، فهناك نوع المنافسة الجسدية والفكرية بين المؤدين؛ أي يمكن النجاة من بعض المقالب ضمن بعض الاحتمالات، كأن يجيب أحدهم عن سؤال تافه إجابة صحيحة، ما ينجيه من صفعة محكمة، أو امتلاك قوة في عضلات القدمين، ما ينجي المؤدي من الكف العملاق الذي سيطيح به إن لم يتمكن من استخدام الدواسات بسرعة.. هذا الشكل من المنافسة، أكسب الفيلم بعض الاختلاف عما سبقه، وترك أملاً لدى المشاهدين بأن إمكانية النجاة قائمة.
لكن تبقى هناك إشكالية في الفيلم، شهرة الأحمق لم تأت من الخطر الجسدي وحسب، بل من المقالب ذاتها والجرأة على تنفيذها؛ فبنية الفيلم لا تحوي أي حكاية، بل مجرد سلسلة من المقالب المختلفة في "ألمها"، الشأن الذي أًصبح منتشراً الآن بشكل كبير، بعكس بداية الألفية، حينها لم تكن وسائل التواصل متوافرة كما الآن، حيث الهواة ينفذون وينشرون أيضاً مقالبهم للعلن، وهذا بالضبط ما هو إشكالي، ما من فرق بين الهواة والمحترفين في هذا النوع من الكوميديا، الأذى ذاته، ووسائل الأمان قليلة، ليظهر الفيلم أقرب إلى محاولة للاحتفاء بالماضي، وبشكل من أشكال الكوميديا الذي فقد ألقه الآن بسبب تداوله بشكل كبير، وبأسلوب أشد خطورة؛ فهناك الآن ملايين الفيديوهات والصور تكشف لنا هذا النوع من الإضحاك ومدى الإبداع فيه.
أبرز ما يميز Jackass، منذ البداية، حتى الآن هو الميزانيّة؛ تمرين على المخيلة المنحرفة، ثم الحصول على النقود لتنفيذها، وهذا ما نشاهده في طبيعة المعدات المستخدمة، التي لا يمكن توافرها لأيّ أحد، فهناك طائرات نفاثة محمولة على الظهر، ومدافع بشريّة، وانفجارات. أمر يشبه احتفاء المخيلة بسؤال "ماذا لو ؟" السحري... أي ماذا لو قررنا تفجير مرحاض متنقل؟ ما الذي سيحصل؟ وكيف يمكن تنفيذ ذلك؟ من سينفجر؟ لا نمتلك إجابة سوى عن السؤال الأخير: من سينفجر؟ سنراه حين يخرج من الركام ضاحكاً حد السقوط أرضاً.
انضم إلى فريق العمل عدد من الكوميديين الجدد، مثل إريك أندريه، وبعضهم من متابعي السلسلة منذ بدايتها. لكن يبقى التركيز على نوكسفيل وستيف أو، ليس فقط بسبب عمريهما، بل هناك تلك النظرة الغريبة لديهما، غياب الخوف من أعينهما لا يمكن تفسيره، لا حدود لما يمكن أن يقوما به. نحن أمام طفلين بعمر الخمسين، ينصاعان لمخيلتهما من دون أي تردد ولا خوف مما قد يحدث.
لكن، حسب نصيحة ستيف أو، لا يهم عدد الارتجاجات الدماغية التي أصبت بها قبل الخمسين، فلن يحدث شيء لك، أما بعد ذلك، فيجب أخذ الأمر بجدية. كلا الرجلين قارب الخمسين، من دون أن يقطعا عتبتها، بالتالي، لا مشكلة، لا ضرر دائم، هناك ضحك، وضحك فقط.