لا يعرف توم ويتس (1949) معنى الثبات أو التوقف عن العمل؛ إذ أعلن المغني والممثل والشاعر الأميركي، في التاسع من أغسطس/ آب الحالي، عن إصدار ألبوميه Alice وBlood Money بأسطوانتي فينيل (Vinyl)، مضيفاً إليهما تسجيلين حيين يبصران النور لأول مرة.
ينتظر جمهور ويتس صدور الأسطوانتين منذ عام 2002، ويُتوقع أن يصدر المنتج النهائي إلى الأسواق في أكتوبر/ تشرين الأول من هذا العام. أما اليوم، فهناك سبب آخر للاحتفال، إذ يفيض أغسطس/ آب بالأخبار السارّة عن المغني الذي يحيي اليوم، ومعه محبّوه، مناسبة مرور 35 عاماً على إطلاق واحد من أهم ألبوماته؛ Franks Wild Years. يجني ويتس ثمار السنوات الماضية من العمل الحثيث والمستمر، ويؤطر أعماله السابقة بشكل يتناسب مع قيمتها الفنية المتراكمة، التي يبدو أنها، مثل صوته الأجش، تزداد جمالاً وعتاقة وسحراً بمرور الزمن.
صدر Franks wild years في أغسطس من عام 1987، وهو الأخير في ثلاثية نحاسية بدأت مع (1983) Swordfishtrombones، ثم تلاه (1985) Rain Dogs. اعتمدت الثلاثية نهجاً جديداً مغايراً لما سبق. كان ويتس قد استوحاه من شعراء جيل البيت الذين تأثّر بهم الموسيقي الشاب على نحو واسع مع نهاية السبعينيات الأميركية؛ فتخلى أخيراً، عبر الإصدارات الثلاثة، عن صورة الثمل السكير التي كانت قد صبغت معظم أعماله السابقة بنغمة جاز يائسة، تحتفي بالهزيمة والفشل، مواجهاً قصص النجاح الزائفة وممثليها من وجوه المجتمعات التي هرب منها ويتس طوال حياته.
كانت البارات والشوارع وبيوت الدعارة هي منازل ويتس المتنقلة، يحملها معه أينما حل. وكان روّادها ومتسكعوها هم رفقاء روحه الحقيقيون، وشركاء موسيقاه التي نبضت بالإيقاع الصاخب لحياة المدن السفلية. أغرقت تلك الصورة معظم جهود ويتس الموسيقية السابقة؛ فزجّته في صورة أحادية عن نفسه: صورة السكير المدمر لذاته والمضطرب عاطفياً، من دون أمل بالنجاة من الهوة المظلمة التي تُسمّى الواقع. لكنها أيضاً وسّعت معرفته الشخصية والحياتية، ومنحته ما يميزه عن غيره من موسيقيي جيله؛ التجربة مقرونة بالوعي وإمكانية التغيير.
مع Franks wild years، وفرانك هو اسم والد ويتس؛ الرجل الكحولي وأكثر الرجال تأثيراً على حياة الفنان حتى في غيابه عنها، تظهر صورة جديدة عن المغني وشخصيته، لا يتخلّى فيها عن ولائه للشارع، لكنّه يبدو أكثر نضجاً بالتعامل مع ذات الموضوعات التي شلّت ويتس لعقود سابقة وحدّت من إمكانياته الموسيقية الواسعة.
كُتب الألبوم للمسرح أولاً، وقُدّم على خشبة Steppenwolf بوصفه "أوبرا في فصلين" بالتعاون مع زوجة ويتس، الكاتبة والمحررة كاثلين برينان، ومع تأثر واضح بالموسيقي كورت فيل، والمخرج المسرحي روبيرت ويلسون، الذي تعاون معه ويتس، إلى الجانب الكاتب وليام بوروز، عبر عدد من الألبومات المسرحية والكرنفالية.
لا يتبع الألبوم لقواعد الكتابة المسرحية، ولا يلتزم بمحددات المسرح الموسيقي التقليدي؛ فلا حبكة متسلسلة، ولا صراع معلناً عنه، ولا راوي بهوية واضحة. الألبوم هو خليط من الأغاني ذات الموضوعات المختلفة، دون وجود رابط درامي فعلي يجمع بينها، ومع ذلك تشكّل تناغماً بين شخصيات وأصوات متعددة، لا تستحضر زماناً ومكاناً محددين، لكنّها مع ذلك راهنة وذات صلة. يقدم ويتس أغانيه عبر مزيج من الأنماط الموسيقية، يطغو عليها أحياناً الفودفيل والأسلوب البريختي في سرد الأحداث والتعليق عليها. أسلوب استوحاه المغني بدرجة كبيرة من المسرح التجريبي الطليعي.
كتب ويتس معظم كلمات الألبوم بنفسه، مع استثناءات قليلة قدم فيها تعاوناً مع زوجته برينان. ويحتوي العمل على واحدة من أكثر أغاني ويتس شهرة وتأثيراً Innocent when you dream. أغنية يمكن تشبيهها بتهويدة الأطفال، تعزف في غالبها على الأكورديون بنغمة مرحة ومشرقة.
شكلت تلك الأغنية صدمة هائلة لدى جمهور ويتس عند ظهورها، فالمغني المعروف بألفاظه البذيئة، وبموضوعاته العنيفة، وبنبرته الكحولية وصوته الجامح والأجش الذي كثيراً ما شُبّه بالـ"النباح" ينجح في ترويض صورة الوحش البري، ليغدو مجرد طفل بريء عبر الأغنية، يحلم بالمروج الخضراء والقمر، كاشفاً عن طفولته الوحيدة في غياب والده في سن الـ11 عاماً، وعن مراهقته الصعبة في ضاحية سان دييغو بالقرب من حدود المكسيك، حيث احتك المغني اليافع بأفراد العصابات وعمل في المطاعم ومحلات البيتزا.
صنع ويتس ترنيمة حول الآمال التي حطّمها الواقع، وهاجم الصورة النمطية عن الرجل القاسي والصلب عبر الأغنية، ليقدم ترنيمة ناعمة عن الحلم، بوسع الرجل فيها أن يكون رقيقاً وبريئاً، تنقذه قوة الحب والعاطفة، وتعينه الصداقة والضحك في مواجهة الموت ومقابر الواقع، التي يركض عبرها المغني مع رفاقه. تنجح الأغنية في تصوير واقع حالم أو "تخديري" كما يدعوه ويتس، يلقي نظرة رومانسية على الحياة كما كان من المفترض أن تكون، ويعترف بخيانة الواقع لأحلام الأطفال البريئة.
أما أغنية I'll be gone، ففيها يعود ويتس إلى أسلوبه الغريب والممسرح في الغناء، ويتعمد تشويه صوته عبر الموسيقى التي تتخللها مؤثرات صوتية لصياح الديك. تتألف الأغنية من مقاطع ستكاتو عديدة، وتعتمد على الأكودريون بشكل أساسي، بمرافقة الترومبون والإكسيليفون والغيتار، ما يجعلها لحظة مبهجة ومسلية عبر الألبوم. المفارقة في تلك الأغنية أنها على الرغم من نغماتها الفرحة، فهي تتحدث عن الانتحار والتلاشي، لتشكل نقطة تحول مهمة عبر السرد، مقدمة قصيدة عن رجل يجرد الوجود إلى غريزة بدائية خام.
هنا، فرانك خاسر، مهزوم، ولا شيء يسير كما خطط له. ومع أننا نتلمّس البؤس واضحاً عبر الأغنية، إلا أننا لن نعرف إن كانت الشخصية الرئيسية ستنهي حياتها شنقاً في نهاية الأغنية، أم أنها تتلو التهديدات فقط. ليس بوسعنا الحسم حول إذا ما كانت صوراً "عشوائية" مثيرة للذكريات العاطفية، أو تشبيهاً أدبياً يكون فيه الراوي هو الحلم الذي سيختفي ويتلاشى في الصباح. تترك لنا الأغنية مهمة تفسيرها، وتنتهي إلى نهاية مفتوحة تخلق تساؤلات حول مصير الشخصية ومعنى الأغنية.
ويعود ويتس في أغنية Hang On Saint Christopher إلى إحدى حيله الشهيرة في الغناء، فيستخدم مكبر الصوت، تماشياً مع روح الأغنية المازحة التي تستخدم صوراً وتعبيرات عامية أميركية، تصف مشهد سواقة أميركي أصيل. وفي أغنية Way down in the hole، يدير ويتس المايك عن وجهة فرانك، ويقدمه إلى مبشر يحاول تنوير فرانك الغارق في الملذات والإغراءات، عائداً إلى تقليد أغاني الغوسبل الإنجيلية، لكن بنبرة تهكمية تسخر من الحلول التي يدفعها المجتمع في وجه أفراده المخذولين.
يتبع ويتس النهج الساخر ذاته مع أغنية I'll Take New York، التي تبدو كمحاكاة ساخرة ومشوّهة لموسيقى برودواي، خصوصاً أغنية فرانك سيناترا "نيويورك نيويورك". يتطرف ويتس في صوته لزيادة العنصر الكوميدي، ويتعمد استخدام جميع العبارات المبتذلة للنجومية والشهرة المعروفة في عالم الشوبيز. أما أغنية Cold cold ground، فيصف فيها ويتس الحياة الشتوية، خصوصاً بالنسبة للفقراء، ساخراً من الحلم الأميركي، مختزالاً إياه إلى زجاجة تُمرر في البرد، وبعض الأخشاب المحتفظ بها أعلى السقيفة. أما الأحلام الكبيرة، فبوسعنا أن نطمئن بعدما دُفنت في أرض باردة.
بعد مرور 35 عاماً، ما زال هناك الكثير لنعرفه عن أعمال ويتس الموسيقية المملؤة بالتفاصيل الصغيرة والأسرار غير المكتشفة. ولعلّ Franks Wild Years يشكل واحداً من أهمها من دون منازع.