نهاية الشهر الماضي، أصدرت بيورك ألبومها الجديد، تحت عنوان Fossora. هذا الأخير هو العاشر في مسيرة الفنانة الآيسلندية المثيرة للجدل، التي مضى خمسة أعوام على آخر ألبوم كانت قد أصدرته. وخلال هذه الأعوام الخمسة، حدثت الكثير من الأمور الكارثية بحياتها، على المستوى الخاص والعام، ابتداءً من رحيل أمها، وليست انتهاءً بالعزلة القسرية في سنوات جائحة كورونا.
لكن كل ما حدث، لم يغيّر من الأمر شيئاً، فلا تزال بيورك تتمتع بالروح المجنونة ذاتها المفعمة بالإبداع، ولا تزال تبتكر بالموسيقى التي تنتجها وبالفيديو آرت المرافق لها، وهي على أعتاب الستين من عمرها.
أول ما يلفت الانتباه عند الاستماع إلى بيورك، إلى جانب صوت السوبرانو القوي، هو الطريقة الغريبة جداً بترديد المقاطع، التي تبدو أنها آتية من التقاليد الموسيقية الآيسلندية في العصور الوسطى، التي تُعرف باسم "ريمور" (Rimur)، وكانت ترتكز على جوقات الرجال.
هذا الأسلوب الخاص بالأداء وتقطيع الكلام، أعادت تدويره بيورك بصيغة تبدو فيها واضحة تأثيرات الريغي، وأضافت لنفسها طابعاً خاصاً من خلال الفيديو آرت الذي تنتجه ليرافق الأغاني، ويخالف كل ما هو سائد، ليرسم عوالم غريبة ومخيفة، تبدو أفضل انعكاس ممكن للأصوات العميقة التي تجتهد كل مرة لتجاوزها، وتدعمها بشراكات من ثقافات متعددة، تزيد من تعقيد الأغاني التي تنتجها، حتى وإن كان مصدر الصوت والثقافة التي ينتمي إليها مألوفاً بالنسبة للجمهور، كما هو الحال في أغنية Cristal line التي استخدمت فيها صوت المغني السوري الشعبي، عمر سليمان، والموسيقى الإلكترونية المستخدمة بالحفلات الشعبية في الجزيرة السورية، لتنتج أغنية أكثر تعقيداً عن كل السياقات التي يمكن أن نتخيل بها صوت سليمان وموسيقاه.
المحطة الأخيرة السابقة للإصدار الجديد، كانت ألبوم بيورك الرسمي التاسع "يوتوبيا" (2017). هذا الأخير كان بمثابة رؤية للجنة، وفيه تخيلت مغنية البوب الآيسلندية التجريبية عالماً خارج عالمنا، لتعكس من خلاله التناقض بين الصور الأثيرية التي تنشدها البشرية، وبين مسارها ونتاجها، لتعبّر بيورك عن مخاوفها المتزايدة بشأن البيئة.
كان "يوتوبيا" واحداً من أروع وأهدأ التسجيلات الطليعية، التي تعيد النظر بالأصوات الغريبة التي أنتجتها الموسيقى الإلكترونية، لتضعها ضمن سياق ذي معنى. وفي السنوات الخمس الفاصلة بين الألبومين، اختفت بيورك عن أعين الجمهور إلى حد كبير، فكان من السهل تخيلها ستعود بنسخة جديدة عن المدينة الفاضلة، بعد أن سيطرت هذه الهواجس على ألبوماتها الأخيرة.
من هذه النقطة بالتحديد، تبدأ بيورك رحلة الألبوم الجديد، لكنها هذه المرة لم تحلق إلى مكان أبعد، بل عادت إلى الأرض لتستقصي تدهور عالمنا الطبيعي، ولتتأمل تأثيره المُنهك على علاقاتنا البشرية، لتربط بين أسباب عجزنا عن الاهتمام بكوكب الأرض مع طبيعة البشر الفاشلة بخلق علاقات مستديمة، وعدم قدرة البشر على الاعتناء ببعضهم بعضاً على المدى البعيد.
السمات العامة لألبوم بيورك الجديد التي يمكن ملاحظتها، أنه أكثر ألبوماتها شخصية، ففيه تعود إلى جذورها الآيسلندية بدلاً من الغوص بالثقافات الغريبة عنها، وفيه أيضاً تعطي دوراً لعائلتها التي كانت دائماً بعيدة عن المحتوى الفني الذي تنتجه؛ فلأول مرة ترسم بيورك ملامح لابنها وابنتها، في أغنيتي Ancestress وHer Mother’s House على التوالي.
سبب هذه التغييرات يرتبط بمأساتها الشخصية المتعلقة بموت والدتها في عام 2018، ومتعلق أيضاً بحالة الإغلاق العامة، إذ صرحت بيورك لصحيفة "ذا غارديان": "لا أعتقد أنني كنت في المنزل بهذا القدر منذ أن كان عمري 16 عاماً". هذه العوامل أدت إلى خلق ألبوم مليء بالعواطف، لكنه لا يخلو من غرابة بيورك المعتادة. فعلى مدار 54 دقيقة، نمر على مقطوعات موسيقية مكونة من أزيز وآلات غريبة، مثل ترولا غابا (Trölla-Gabba)، التي تساعد على إضافة أصوات غير تقليدية ومخدرة، تبدو عصية على الاندماج بكل أنماط الموسيقى الإلكترونية التي نعرفها، ولا يفكر في استثمارها سوى فنان مغامر كبيورك. ورغم غرابة الأصوات، يمكننا التنقل بسهولة بين الأنواع الموسيقية المختلفة التي يتكون منها الألبوم؛ الأمر الذي يبدو عادة صعباً أو غير متوازن إذا ما حدث، لكن بيورك تفعله بسهولة.
يبدأ العمل بأغنية Atopos، بفيديو بصري لا يبدو غريباً عن بيورك، رغم أنها تظهر بهيئة غريبة، تضيع فيها ملامح البشر بالنباتات، ربما نباتات نهرية أو فطريات. كلمات الأغنية مستوحاة مما وصفه رولان بارت بأنه الآخر غير القابل للتصنيف. يرد فيها: "أليست هذه مجرد أعذار لعدم الاتصال؟ خلافاتنا ليست ذات صلة بالأمر، إنها لتسمية العيوب فقط. هي مجرد أعذار لعدم الاتصال". وتعيد بيورك صياغة الأمر بطريقة شعرية بما يتوافق مع الفيديو آرت المرافق: "إذا لم ننمُ إلى الخارج نحو الحب، سننهار إلى الداخل نحو الدمار. إذا لم تصل نبتتي نحوك، سيكون هناك تآكل داخلي تجاه الجميع. السعي وراء الضوء بقوة هو شكل من أشكال الاختباء".
وتصل بيورك إلى ذروة الشعرية في الأغنية مع المقطع الأخير: "الأمل معضلة"، لتقدم بصورة واحدة لمحة شاملة عن الشعرية التي ينطوي عليها الألبوم؛ الشعرية القاسية التي تحول الأفكار والمشاعر الإنسانية إلى عناصر بيولوجية يمكن التحكم بها والسيطرة عليها؛ لكن لا توجد نية لفعل ذلك.
في الأغنية الثانية، Ovule، ننتقل خطوة نحو العتبة التي تفصل بين الوجود والعدم، بين الحياة والموت، لتكون تعبيراً عن رحم الولادة، المدمر والمعالج بالعالم الرقمي: "لقد وضعت بيضة زجاجية فوقنا عائمة، بويضة بيضاوية في فراغ أحمر غامق كالدم، تحمل ذواتنا الرقمية، وتقبلها وتقبلها".
هكذا تتركنا بيورك في المساحة الفاصلة بين الحياة والموت. لا تمارس حركة سوى حركة النمو كالنباتات، ولا تتغير الأشياء إلا بالاتجاه التلقائي نحو مصادر الحياة أو مصادر الموت. وبهذه الصور، ترسم بيورك ملامح العالم الذي يحتضنه الألبوم قبل الدخول بالمواضيع الأكثر ذاتية، والأكثر قدرة على خطف تعاطفنا كبشر، لنصل إلى أغنية Ancestress، التي خصصتها لأمها. وتبدأ الأغنية بترديد هواجس تمرد الابنة المراهقة وتندب سياق الحركة البشرية، التي نعتبرها طبيعية، والمتمثلة بالانعتاق عن رحم الأم والعائلة.
كلمات الأغاني ابتداءً من هنا تصبح أكثر تفككاً، فهي صور شعرية متتالية صرنا نعرف كيف نضعها في السياق، ليبدأ كل شيء يأخذ هذا المنحة مع افتتاحية Ancestress: "جمجمتي هي كاتدرائيتي، حيث يحدث الزواج". وخلال هذا السياق، تبدو بيورك وكأنها ترسم الطريق بكلماتها نحو العالم الآخر، بحركة أحادية محدودة، هي حركة النمو التي يتقاطع بها البشر مع النباتات. هذا العالم الآخر ربما هو الجنة التي كانت بيورك قد رسمت ملامحها في الألبوم السابق.
السعي وراء الجنة وكأنه تمرين غير مثمر، هذا ما تقوله بيورك، ولكنها تجعل الأمر يبدو أكثر تلقائية وسهولة، فالوصول إلى هناك لا يتطلب سوى تعلم التعايش مع ما لدينا بالفعل، من دون بذل جهد قصدي إلى عالم مجهول. ولا يساعدنا على الوصول سوى العثور على الأشخاص الذين يمنحوننا القوة ويعيدون إيماننا للاستمرار في مواجهة المحن الخطيرة.
هكذا ترسم بيورك الرحلة للعالم الآخر بألبوم Fossora، الذي أسمته بكلمة لاتينية تعني الحفر، وتختزل معاني عدة، لتحمل وجهاً بالتقرب من النباتات والأرض، وتحمل وجهاً للحفر نحو العالم الآخر. لكن آلية الحفر لدى بيورك ليست إلا إطاراً للتأكيد على الحياة، وغالباً ما يكون لهذا امتداد نحو التأكيد على أنه يجب علينا حفر الأنقاض في قلوبنا وأرواحنا من أجل إعادة بناء الخراب العاطفي والجسدي الذي خلفناه وراءنا، بالتراكم مع الأجيال السابقة.