غابرييل فوريه... موسيقى جنائزية للمتعة

17 نوفمبر 2024
تمرّ 100 عام على رحيله (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه الفنان تحديًا في تحديد ما إذا كان عمله ينبع من وحي ذاتي أم استجابة لتوقعات الجمهور، حيث يؤكد والتر بنيامين أن الفن يجب أن يكون تعبيرًا ذاتيًا خالصًا.
- مقطوعة "ريكويم" لفوريه تعبر عن تسليم الإنسان بدورة الحياة والموت بشكل صوفي وذاتي، مبتعدة عن الدراما التقليدية، وتعكس تيارات فلسفية وفنية معاصرة.
- تأثر فوريه بتربيته الكاثوليكية وبدأ يميل نحو الإلحاد، حيث تعكس "ريكويم" بحثه عن المقدس بعيدًا عن الدين التقليدي، معتبرًا الموت خلاصًا وتطلعًا للسعادة.

أشد المسائل عُسراً على الفنان، عند شروعه في عملٍ فنّي، أكان لوحة أم مقطوعة أم قصيدة، هي معرفة ما إن كان فنّه قد اندفع استجابةً لوحيٍ ذاتيّ خاص، أم لما يطلبه الجمهور.
هل يضع مُلحّنٌ لحنه، وهل يكتب شاعرٌ مفرداته، إصغاءً إلى ما يودّ المستمع سماعه والقارئ قراءته؟ هل يخطّ رسامٌ بريشته وعينهُ على المشاهد استباقاً لما يرغب بأن يشاهد؟ أم أن دافعه الإبداعي وخياره الفني ينبعان من قرارة النفس وغياهب الوعي؟ 
عن تلك المسألة، أجاب المفكر والناقد الألماني فالتر بنيامين، في مقالة له بعنوان "مهمة المترجم"، تعود إلى عام 1923، بأن "ما من قصيدة نُظِمت لقارئ، ولا صورة رُسمت لناظر، ولا سمفونية لُحِّنت لمُستمع"؛ أيّ لا ينبغي للفنان، لدى إبداعه فنّهُ، أن يأخذ الآخر بعين الاعتبار. 
من أبرز الإبداعات التي يمكن النظر إليها بمثابة تأكيدٍ على مقولة بنيامين هي المقطوعة الموسيقية الجنائزية ريكويم (Requiem)، على سلم ري مينور للمؤلف الفرنسي غابرييل فوريه Gabriel Fauré ،(1845-1924)، والذي يصادف الشهر الحالي الذكرى المئوية لرحيله.
على الرغم من أن إنجازها تمّ خلال فترة زمنية حَدتّها كلّ من وفاة أبيه ومن ثم أمه، فإن غابرييل فوريه لمّا سأله أحد النقاد سنة 1910، عن الغرض من تأليفه وفق قالبٍ يستمدُّ الاسم من "قدّاس راحة الأموات" المعمول به لدى الكنسية الكاثوليكية، أجاب: "لم أؤلف مقطوعتي ريكويم لأجل أيّ شيء.. ربما للمتعة، إن أمكنني قول ذلك". 
لعل تلك كانت طريقة غابرييل فوريه الساخرة في الإشارة إلى أن الغرض من "ريكويم" لم يكن رثاءً لأحد، وأنه لم يأت بتكليفٍ من جهة، سواء فرداً أم مؤسسة، دينيّة أو دنيوية، وإنما جاء بحسب المبدأ الشهير للفنان التشكيلي الروسي فاسيلي كاندنسكي نابعاً من "ضرورة داخلية"، تتمثّل في رغبة الموسيقي باكتناه الموت عبر الموسيقى، فتكون له بمثابة "مومنتو موري" (Momento Mori)؛ أشبه بخلوةٍ سمعية لأجل التأمل في حتمية الفناء. 
بخروجها عن الوظيفيّة الديماغوجية، تتميّز "ريكويم" (ري مينور)، عن قريناتها من المقطوعات الجنائزية، التي حفظها كانون الموسيقى الكلاسيكية، في أنها تعبيرٌ ذاتيٌّ صوفي عن تسليم الإنسان بدورة الموت والحياة، في حين نزع مؤلفو "ريكويم" كلاسيكيون ورومانسيون، مثل موتزارت، وفيردي وبرليوز، إلى تهييجٍ دراميٍّ يتوجّه إلى المستمع، بهدف التعبير عن هول الفاجعة ووقع المصاب، وذلك بتلحينهم نصوصاً دينية سبق لمراسم القدّاس الرسمية أن تضمّنتها، كترتيلة "يوم الجلجلة" (Dies Irae)، التي آثر فوريه استبعادها من مؤلفه.
إلا أنّ مقاربة فوريه الخاصة للموسيقى الجنائزيّة لها أيضاً وجهٌ متعلّقٌ بالوعي الجمعيّ، إذ يمكن وضعها في سياق عصره الثقافي. فقد شهدت الفترة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين ظهور تيارات فنيّة فلسفية ميتافيزيقية كالسوريالية والتعبيرية، فضّلت الرمز والمجاز على المعنى والعبارة، محوّلة الفرد، الذي تمحورت حوله الرومانسية الأوروبية، من مُحرِّك للعالم إلى متأمّل له. ما حدا المؤرّخ الفني البريطاني إرنست غومبريتش إلى تشبيه أسلوب فوريه الفني في تأليفه للريكويم بأنه "قناع، يُخفي أكثر مما يُظهِر". 
والقناع بالنسبة إلى غابرييل فوريه ما هو سوى رمز للعجز عن إدراك ماهيّة التعبير عن الذات، وعليه، الاكتفاء بالإشارة. ها هو يكتب سنة 1903: "مراراً وتكراراً، يستحيل تحديد النقطة التي بلغتَها، أو التي تظن بأنك تذَهب إليها. كم هي المرات التي سألت نفسي فيها: لأجل ماذا ثمة موسيقى؟ ما هي يا ترى؟ ما الذي أوْصله من خلالها؟ أيّ مشاعر؟ وأيّ أفكار؟ كيف لي أن أعبّر عن شيء لا أقوى بنفسي على تحليله؟".
بقدر ما ينبع الإحساس بالعجز عن استغلاق علاقة الفنان بفنه، بقدر ما يوحي باضطراب العلاقة بين الفنان وعالمٍ  مُتغيّرٍ باستمرار. كانت فترة ما بين القرنين قد شهدت تسارعاً غير مسبوقٍ في الحضرنة والتصنيع، علاوة على دفق الكشوفات العلمية والاختراعات التكنولوجية، تبدّلت معها طبيعة الحياة جذرياً، كما تبدّل وعي الإنسان للواقع وللزمن، ولذاته، ولمن وما حوله.

على أثر تلك المتحوّلات، اندلعت ثورات غيّرت المجتمعات ووسائل الإنتاج، نجمت عنها حروبٌ ذهبت بقوى وأتت بقوى جديدة. أجّج الواقع المضطرب لدى المفكرين والأدباء والفنانين قلقاً وجودياً، كما خلق إحساساً مزدوجاً بالاغتراب عن كلّ من الماضي والمستقبل، وشعوراً بغياب المعنى.  
أدّى كلٌّ من الاغتراب وغياب المعنى إلى عوز روحي، ألمّ بالحياة الفكرية والثقافية في حواضر أوروبية مثل لندن وباريس، التي أخذت مع الوقت تخلع عنها عباءة المسيحية وتنضوي تحت راية العلمانية. 
في كتابه "فوريه والجماليات الفرنسية"، يتحدث الباحث الموسيقي كارلو كابليرو عن كيف أن فوريه، المديْن بتربيته الموسيقية ووظيفته إلى الكنيسة، ظلّ يختبر على مدى حياته انحساراً في مشاعره إزاء الكاثوليكية، وتوجّهاً متزايداً نحو الإلحاد.
إلا أن الرغبة بالابتعاد عن الكنيسة، بالنسبة إلى ذاتٍ تخوض قلقاً وجودياً، لا تعني بالضرورة الإذعان للعدمية المادية المطلقة، وإنما الاقتراب من المقدّس والبحث عن دينٍ من غير تديّن، يؤمن سبيلاً إلى تجربة روحية مستقلة عن المؤسسات بأشكالها، يصير الشعر والفن والموسيقى شعائر لها.

لذا، لم تخرج "ريكويم" عن العام والظاهر، السائد والمؤسساتي، إلا لتدخل في الذاتي والباطن، التأملي والماورائي، فيجد المؤلّف في الموت وعداً بالنجاة والرحمة، لا وعيداً بالحساب والعذاب. في عام 1903، كشف فوريه للباحث الموسيقي لويس أغويتان عن رؤاه تلك، حين قال له: "هكذا أنظرُ إلى الموت، بأنه خلاصٌ بهيج، وتطلّعٌ إلى سعادة تتجاوز القبر، وليس بوصفه تجربة موجعة".

المساهمون