"يوم سعيد" لهشام زمان: نظرة سينمائية ثاقبة

"يوم سعيد" لهشام زمان: نظرة سينمائية ثاقبة

09 أكتوبر 2023
"يوم سعيد": مساحات واسعة وثلوج وعزلة لمهاجرين مراهقين (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يَأسرُ موضوع الهجرة المخرج الكردي النرويجي هشام زمان (1975)، ويغدو هاجساً له، يلازم تقريباً كلّ منجزه السينمائي. بفطنة فنان موهوب يعالج موضوعاتها، ويُنوّع زوايا النظر إليها. كلّ فيلمٍ له يبدو كأنّه يتناول ثيمة الهجرة لأول مرة. "قبل سقوط الثلج" (2013) لا يشبه أبداً "رسالة إلى الملك" (2014)، و"يوم سعيد" (2023) لا يشبه الفيلمان. مستوى الاشتغال في كلّ واحد منها مختلف عن الآخر أيضاً.

بدأ هشام زمان جيّداً، مُعتنياً بتفاصيل عمله. لم يرتكز على موهبته فقط، بل تعلّم أصول السينما أكاديمياً. ارتقى مستواه بسرعة لافتة، واقترب من الكبار برويّة. ليست صدفة أنْ تفوز أفلامه بأفضل جوائز المهرجانات الاسكندنافية. فيلمه الأخير يقارب أسلوب الفنلندي آكي كوريسماكي، من دون أنْ يكون نسخة منه. عوالمه غرائبية، لكنّ شخوصه تنتمي إلى واقعٍ، لشدّة غرابته يبدو فيه أبطال "يوم سعيد" كأنّهم كائنات غريبة، جاءت من فراغ، وُيراد لها أنْ تعود إليه.

أبطاله (جميعهم ممثلون هواة، تعرّف عليهم في المعسكر، وبعضهم في أوسلو، صدفة) لاجئون صغار، وصولوا إلى النرويج وحدهم من دون ذويهم. دائرة الهجرة أقامت لهم معسكراً في أقصى الشمال، أقرب في تفاصيله وطريقة إداراته إلى مراكز رعاية الأحداث. مركز مفتوح وسط أرض شاسعة وفارغة، يكسوها الثلج بالكامل، والجبال العالية تحيط بها، فتزيد من عزلتها وعزلة المراهقين القادمين إليها من المجهول. لا تعرف السلطات أعمارهم الحقيقية، وبعضهم يزوّر هويته ويُخفي اسمه الحقيقي. يقدّمون غالباً تواريخ وهمية تُبعدهم قليلاً عن سنّ الرشد. الرقم 18 مصدر خوفهم وقلقهم، لأنّ قانون الهجرة يُقرّ للسلطات في النرويج ترحيل من يبلغ هذه السنّ إلى موطنه الأصلي.

إلى تلك المجموعة يلتفت هشام زمان، ويكتب (السيناريو له) نصّه الآسر، المُجسّد بأسلوب سينمائي يختلط فيه الواقعي بالخيالي، وللكلمة فيه مكانة خاصة. حميد (صلاح القاضي)، صبيّ حسّاس يكتب الشعر، وينظر إلى العالم بعين شاعر. مع صديقيه في المعسكر آراس (رافاند علي طه) وإسماعيل (محمد صلاح)، يشكّلون ثلاثياً متوافقاً على فكرة واحدة: الهروب من المعسكر قبل بلوغهم سنّ الرشد. الشاعر يحدّد لهم وجهة خلاص خيالية، تعِدهم بأرضٍ دافئة تسطع الشمس فيها وتسود الخضرة جهاتها، بمجرّد عبورهم الجبل إلى الجهة الأخرى. بأمل تحقيق ذلك الحلم، يتواصلون فيما بينهم، ويُخطّطون. لا يتأثّرون كثيراً بمصائر أقران لهم، تاهوا، وماتوا متجمّدين في محاولة هروبهم.

 

 

يتجنّب هشام زمان الوقوع في المُكرّر من القصص الدراماتيكية للمهاجرين، ولا يميل إلى بكائيّة. على عكس ذلك، يخلق من الوجود الملتبس لهؤلاء مناخاً كوميدياً ساخراً، يلازمه قلق وخوف متأتيان من فراغ يحسّ به المراهقون في كلّ ما يحيط بهم. مراهقون ينشدون خلاصاً من زحمة الأسئلة التي تطارد عقولهم، فتغدو فكرة الهروب ملاذاً لهم، أكثر منها حلاً. صبيان لم يختبروا معترك الحياة. لا يعرفون الحبّ ولا الصلات الجسدية بالكائن الآخر، إلا عبر فتحة في جدار، يراقبون منها الصبايا في الحمامات. لن يدوم ذلك طويلاً، فالحبّ يأتي إلى حميد مع وصول عايدة (سارة أمان منتزوني)، ومعها تفسد خطط الهروب.

بين الحالتين، قبل الحب وبعده، تتغير المناخات السينمائية. يتسرّب الدفء إلى الداخل، فيما يظلّ البرد في الخارج سائداً. الكاميرا البارعة (لوكاش زامارو) تجسّد الفرق الحاصل في المشاعر، وتنقل اضطرابات الحب. الصورة البانورامية لمشهد المعسكر، الملتقطة من علوّ بطائرات "درون"، تُقزّم وجود الأطفال، بينما اللقطات القريبة والمتوسّطة تعيد لهم وللمكان حرارته، كما تُضفي كلمات الشاعر جواً رومانسياً يُمجّد الكلمة ويعلوها على كُلّ الموجود في ذلك المكان المقفر.

تكاد عبارة الشاعر الألماني غوته، "اللغة تصنع العالم"، تتجسّد في المحاولات الشعرية لحميد، وعليها يتعكّز وجوده. رغم بساطتها وطغيان الطفولي فيها، باتت الجسر الوحيد الذي يوصله إلى قلب الصبية التي أحبّها، وملأت المكان صخباً وحيوية بحضورها. في "يوم سعيد"، للكلمة حضورٌ طاغ. لكنْ، لا معنى لها في اشتغال هشام زمان إلا في إطار الصورة والمشهد السينمائي، المُتشكِّل وفق تطوّرات السرد، وتكامل بنيته. الاعتماد الأكبر في توصيل كلّ ذلك كان على الممثلين العفويين، الذين تُركت لهم حرية التعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم. لم يُخيّبوا أمل صانع الفيلم، فتحرّكوا كما لو أنّهم عرفوا التمثيل من قبل، بل وعرفوا ما الذي تعنيه "عوالم غرائبية" سينمائياً. الأصعب أنّهم عرفوا كيف يتعاملون مع البرود العاطفي الاسكندنافي، الذي طالما ميّز إنغمار برغمان عن غيره في التعبير عنه سينمائياً.

من البخل في التعبير عن الكامن في النفوس ونقيضه عند الشرقي، تتأتّى الفكاهة أحياناً. يضفي هذا التناقض التعبيري الصارخ على اشتغالات "يوم سعيد" جمالاً إضافياً، ويُلفِت في الوقت نفسه إلى حالة إنسانية، لا ينشد هشام زمان طرحها بفظاظة، بقدر ما يريد تنويع وتعميق مستويات بحثه السينمائي في الهجرة وتعقيداتها.

المساهمون