تزداد المشاهِد اليومية في لبنان خطورةً وقهراً وخراباً. كلّ كلامٍ يصفها، مُكرّرٌ إلى حدّ الملل. أخبارٌ تُروى عن أحداثٍ تحصل، هنا وهناك، تبثّ صوراً قاهِرة وقاسية عن بلدٍ منهارٍ، وأناسٍ مصلوبين على المهانة. المأزق أنّ أناساً كثيرين يعيشون هذا كلّه بصمتٍ وفراغٍ. يرتضون كلّ حلٍّ يُقدَّم إليهم، وإنْ كان مُؤقتاً، أو مُنبثقاً من مصلحةِ مسؤولٍ أو أكثر، عشية بدء التحضيرات لانتخاباتٍ، نيابية ورئاسية، جديدة، عام 2022.
المَشاهِد مُثيرةٌ لتوتّر وخوفٍ. بعضها يتمثّل باستعادة "مانشيتات" صحفٍ لبنانية، صادرة قبل 30 أو 40 عاماً، تقول وقائع تبدو راهنةً، لعدم اختلافها البتّة عن ماضٍ توثّقه تلك الـ"مانشيتات" وتقاريرها وصُورها الفوتوغرافية: تعطيلُ تأليف حكومة. انقطاع كهرباء وماء. طوابير أمام أفرانٍ ومحطات بنزين. تهاوي الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي. إلخ. لا شيء مُتغيّر، باستثناء أسماء مسؤولين، وتقنية التصوير الفوتوغرافي، وتحوّل الصورة إلى تسجيلٍ، تبثّه وسائل التواصل الاجتماعي. الماضي حاضرٌ، والحاضر لن يؤسِّس مُستقبلاً، لأنّه سيكون مُجرّد امتدادٍ لحاضرٍ، هو الماضي.
بعض الماضي مرتبطٌ بحربٍ أهلية. أخبارٌ وصُورٌ مستعادة من تلك الفترة (1975 ـ 1990)، فيقول البعض إنّ تلك الفترة، رغم الدم والعنف والتهجير والقتل، أفضل من الراهن، فالمال وفيرٌ، رغم انقطاع مواد لمأكل ومشرب وطبابة، إذ تؤمّن هذه كلّها سريعاً. أخبارٌ وصُورٌ عائدةٌ إلى ما قبل اندلاع الحرب، تبدو كأنّها مأخوذة "الآن هنا".
يوميات بيروتية كافية لتبيان حجم الهزيمة والبؤس والإنكار. نجاحٌ متواضع في نقابةٍ (فوز لائحة "النقابة تنتفض" على لائحة تحالف السلطة الحاكمة، في انتخابات نقابة المهندسين، في 27 يونيو/ حزيران 2021) غير مؤثّر في المشهد العام، رغم أنّ الفوزَ أحدُ الردود القليلة جداً على بطش السلطة، وإصرارها على تحطيم الناس، فالأهمّ يتمثّل بسلوك اللبنانيين واللبنانيات في الانتخابات النيابية المقبلة، المزمع إجراؤها في مايو/ أيار 2022، إزاء أقطاب السلطة وأمراء الحرب والطوائف، بعد المهانة الكبيرة التي يُنزلها هؤلاء بهم وبهنّ، يومياً، منذ سنين.
نجاحٌ كهذا تلحق به أخبارٌ، أو تسبقه، وبعض الأخبار يتكرّر حدوثه في أحوالٍ كتلك، لكنّه يتّخذ شكلاً آخر في بلدٍ معطوبٍ بناسه أولاً: امرأة حامل تولِّد جنينها على سُلّم المبنى الذي تُقيم فيه مع زوجها، لعجزٍ عن بلوغ المستشفى في الوقت الملائم، فالكهرباء مقطوعة، وصاحب المولِّد الكهربائي غائبٌ عن السمع، في الثانية بعد منتصف الليل، والزوج غير قادرٍ على حملها إلى هناك. شبانٌ، لعلّهم مُسيَّرون لا مُخيّرون، يقطعون طريقاً في إحدى مناطق بيروت، احتجاجاً على شقاءٍ مُقيمين فيه، وأفرادٌ يحتفلون، رقصاً وموسيقى وغناءً، بافتتاح محلّ جديد، على بُعد خطواتٍ قليلة منهم. جرّاح يُجري عملية في مشفى بيروتي، وفجأة تُقطع الكهرباء، فيُكمِل العملية على ضوء الشموع، لأنّ شركة الكهرباء "ترفض" إعادتها، ولو لوقتٍ يكفي لإنهاء العملية، والمولّد متوقّف عن العمل لنقصٍ في المازوت.
أخبارٌ قليلة تقول شيئاً كبيراً عن بلدٍ وناسه. الجهات المعنية بالشؤون الطبيعية للناس مستمرّة في تثبيت سلطتها على حساب الناس والدولة، إنْ تكن هناك دولة، بالمفهوم العلمي، أساساً. أخبارٌ تتدفّق على شبكات التواصل الاجتماعي، تغلب عليها آلام وخيبات وانكسارات.
كلّ شيءٍ مُعطَّل. كلّ شيءٍ يؤكّد، يوماً تلو آخر، أنْ لا قعر للهاوية. الانهيار يُصيب حاجات ضرورية للناس، غير موجودة في السوق، إمّا لأنّ هناك من يُخفيها، بانتظار وقتٍ ملائمٍ لكسب أرباحٍ إضافية، عند رفع أسعارها قريباً، وإمّا لأنّ دعم "مصرف لبنان" لها ينعدم لحظةً بعد لحظة. رغم هذا، هناك من يتمتّع، بنزقٍ وتشاوف، مع رفاق له، في مسبحٍ، "مُعلَّقٍ" في فضاء طابق أخير من مبنى فخم، يُطلّ على مرفأ بيروت، وعلى البحر خلفه، أما ما فيه من موتٍ وتزويرٍ ومنعٍ لإحلال عدالة مستحقّة، ومن قتل دائمٍ للضحايا ولذويهم، فيبقى خارج الكادر.
أخبارٌ يُفترض بها أنْ توثَّق، مع أنّ أهوالاً تكاد تمنع البعض من الاشتغال على جانبٍ مهمّ من يومياتٍ كهذه. رغم هذا، تُصدِر "مبادرة العدالة الاقتصادية والاجتماعية (معاً)"، قبل أيام، كتاب "بيروت 6:07: رماد حيّ"، الذي يوثِّق قصص ضحايا كارثة انفجار مرفأ المدينة (4 أغسطس/ آب 2020)، بألسنةِ أهل وأقارب. توثيقٌ يستعيد كلّ حكاية، وكلّ انفعال، وكلّ حالةٍ، وكلّ ضحية، باستثناء قلّة قليلة، يقول صانعو الكتاب إنّ الأهل غير مستعدّين لهذا "الآن"، فتُخصّص لهم صفحات بيضاء، لعلّهم يروون الحكايات "لاحقاً". جهدٌ يليق بوجعٍ، يُفترض به أنْ يبقى ساطعاً، كالأوجاع الأخرى، فهذه أداة يجب أنْ تحرِّض على مواجهةٍ دائمة لسلطةٍ تنهب وتُعلن، بتشاوفٍ وكبرياء، أنّها الناهبة والفاسدة والقاتلة، والقتل مُتنوّع الوسائل.
أخبارٌ تصلح لألف فيلمٍ وصورة ونصٍّ. الكتابةُ أسرع. التصوير أصدق. السينما أفعل. حكايات الموت اللبناني كثيرة. التناقضات أكثر في بنيانٍ يتهاوى سريعاً. فهل تلتقط السينما البنيان في تهاويه؟ بعض السينما حاضرٌ وفاعلٌ. بعضٌ آخر مُراقِب ومتأمّل. الحاجة إلى خلاصٍ في أحوال العيش أكثر إلحاحاً. لكن السقوط عظيمٌ، والعدسة يجب أنْ تحضر في كلّ لحظة.
أمّا التأمّل، فمعنيٌّ بحكاية بلدٍ، كلّما تنجح سينماه في ابتكار أشكالٍ عدّة لمعجزة الحياة، يذهب إلى جحيمه، جارفاً الجميع معه.